للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المطلب الرابع: التكليف بما لا يطاق]

مسألة التكليف بما لا يطاق هي أيضا من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين طوائف المسلمين وذلك تبعا للخلاف الواقع في الاستطاعة والتحسين والتقبيح، فالجهمية قالوا بجواز تكليف ما لا يطاق مطلقا (١).

والمعتزلة قالت بعدم جواز تكليف ما لا يطاق؛ لأنه قبيح، والله تعالى منزه عن فعل القبيح فلا يجوز صدوره منه (٢).

والأشاعرة قالوا بجواز تكليف ما لا يطاق عقلا وإن لم يقع في الشرع، وقد أجازوه عقلا بناء على نفيهم الحسن والقبيح العقليين (٣).

وأما الماتريدية فقد وافقوا المعتزلة في هذه المسألة، فقالوا بعدم جواز تكليف ما لا يطاق؛ لأنه فاسد عقلا، ولعدم وجود القدرة التي هي مقتضى التكليف.

قال الماتريدي: "الأصل أن تكليف من منع عنه الطاقة فاسد في العقل" (٤).

وقال ابن الهمام: "ولا أعلم أحدا منهم (أي الماتريدية) جوز تكليف ما لا يطاق" (٥).

والصواب في المسألة هو التفصيل، فيقال: "تكليف ما لا يطاق ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: ما لا يطاق للعجز عنه، كتكليف الزمن المشي، وتكليف الإنسان الطيران ونحو ذلك، فهذا غير واقع في الشريعة عند جماهير أهل السنة المثبتين للقدر.

والثاني: ما لا يطاق للاشتغال بضده، كاشتغال الكافر بالكفر؛ فإنه هو الذي صده عن الإيمان، وكالقاعد في حال قعوده؛ فإن اشتغاله بالقعود يمنعه أن يكون قائما، والإرادة الجازمة لأحد الضدين تنافي إرادة الضد الآخر، وتكليف الكافر الإيمان من هذا الباب.

ومثل هذا ليس بقبيح عقلا عند أحد من العقلاء؛ بل العقلاء متفقون على أمر الإنسان ونهيه بما لا يقدر عليه حال الأمر والنهي لاشتغاله بضده إذا أمكن أن يترك الضد ويفعل الضد المأمور به.

وهذا لا يدخل فيما لا يطاق؛ فإنه لا يقال للمستطيع المأمور بالحج إذا لم يحج إنه كلف بما لا يطيق، ولا يقال لمن أمر بالطهارة والصلاة فترك ذلك كسلا أنه كلف ما لا يطيق " (٦).


(١) الفتاوى: ٨/ ٢٩٧، وانظر: الملل والنحل: ٣٦.
(٢) شرح الأصول الخمسة: ١٣٣، ٣٩٦ - ٤٠٩، نظرية التكليف: ٣٠٠ - ٣٠٤.
(٣) المستصفى للغزالي: ١/ ٩٨، شرح المواقف: ١/ ١٦٠، ١٦١، المطالب العالية للرازي: ٩/ ٢٦٧ - ٢٧١.
(٤) التوحيد: ٢٦٦.
(٥) المسايرة: ١٥٦.
(٦) منهاج السنة: ٣/ ١٠٤، ١٠٥، وانظر: الدرء: ١/ ٦٤، ٦٥، شرح الطحاوية: ٥١٥ - ٥١٨، موقف ابن تيمية من الأشاعرة: ١٤٠٢ - ١٤٠٤.

<<  <   >  >>