للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المبحث الخامس: حكم مرتكب الكبيرة]

ذهبت الماتريدية إلى أن مرتكب الكبيرة - غير المستحل لها- لا يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر؛ بل هو مؤمن كامل الإيمان لعدم زوال التصديق، وهو مع إيمانه فاسق مستحق للوعيد لعدم طاعته لله تعالى واقترافه للمعاصي والآثام.

وقالوا إذا مات مرتكب الكبيرة من غير توبة فهو تحت المشيئة، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وإن عذب يخرج من النار لا محالة.

قال أبو المعين النسفي: "وأما أهل الحق فإنهم يقولون: إن من اقترف كبيرة غير مستحل لها، ولا مستخف بمن نهى عنها؛ بل لغلبة شهوة أو حمية، يرجو الله أن يغفر له، ويخاف أن يعذبه عليها؛ فهذا اسمه المؤمن، وبقي على ما كان عليه من الإيمان، ولم يزل عنه إيمانه، ولم ينتقص، ولا يخرج من الإيمان إلا من الباب الذي دخله، وحكمه أنه لو مات من غير توبة فلله تعالى فيه المشيئة، إن شاء عفا عنه بفضله وكرمه أو ببركة ما معه من الإيمان والحسنات أو بشفاعة بعض الأخيار، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه ثم عاقبة أمره الجنة لا محالة ولا يخلد في النار.

أما الاسم فلأن الإيمان هو التصديق والكفر هو التكذيب، وهذا الذي ارتكب هذه الكبيرة، كان التصديق معه باقيا، وما دام التصديق موجودا كان التكذيب منعدما للمضادة بينهما، فالقول بكفره والتكذيب منعدم أو بزوال الإيمان والتصديق قائم أو بثبوت النفاق والتصديق في القلب متقرر قول ظاهر الفساد، ثم إطلاق اسم الفاسق لما أنه خرج عن حد الائتمار، والفسق في اللغة هو الخروج ثم الخروج عن الائتمار، ولا يضاد التصديق فيبقى التصديق، وإذا بقي كان المصدق مؤمنا ضرورة" (١).

والحق والصواب في الحكم على مرتكب الكبيرة بالنسبة لأحكام الدنيا أن يقال: هو "مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولا يعطى اسم الإيمان المطلق؛ فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق واسم الإيمان يتناوله فيما أمر الله به ورسوله؛ لأن ذلك إيجاب عليه وتحريم عليه وهو لازم له كما يلزم غيره" (٢).

وأما قولهم بأن مرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة يكون تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، ثم عاقبة أمره إلى الجنة وأنه لا يخلد في النار فهو القول الحق في المسألة وهو مذهب أهل السنة والجماعة وسلف هذه الأمة.

قال الطحاوي رحمه الله: " وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما ذكر عز وجل في كتابه {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ٤٨]، وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى مولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته، اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به" (٣).


(١) التمهيد: ٩٢، ٩٣، بحر الكلام: ٤٧، ٤٨، وانظر: التوحيد: ٣٢٩ - ٣٦٥.
(٢) مجموع الفتاوى: ٧/ ٢٤١.
(٣) شرح العقيدة الطحاوية: ٤١٣.

<<  <   >  >>