للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا الدليل دليل صحيح وبرهان تام على إثبات امتناع صدور العالم عن اثنين (١)، ولكن اعتقاد الماتريدية بأن هذا الدليل هو المقصود بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: ٢٢]، اعتقاد باطل وفهم غير صحيح لكلام الله، والذي جعلهم يقولون هذا: هو اعتقادهم أن الإله بمعنى الآله- اسم فاعل- وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع (٢).

فالإله عندهم هو بمعنى الرب، والآية دلت على انتفاء ربين فقط وذلك؛ بتقدير امتناع الفعل من ربين، فالآية عندهم دلت على نفي الشرك في الربوبية فقط، وهو مطلوب دليل التمانع، بينما الآية "دلت على ما هو أكمل وأعظم من هذا، وأن إثبات ربين للعالم لم يذهب إليه أحد من بني آدم، ولكن الإشراك الذي وقع في العالم إنما وقع بجعل بعض المخلوقات مخلوقة لغير الله، وفي الإلهية بعبادة غير الله تعالى، واتخاذ الوسائط ودعائها والتقرب إليها. فأما إثبات خالقين للعالم متماثلين فلم يذهب إليه أحد من الآدميين، وقد قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: (٣٨)].

فعلى هذا هنالك فرق كبير بين مطلوب الآية ومطلوب دليل التمانع - عند الماتريدية-، فمطلوب الآية هو إثبات توحيد الإلهية بفساد العالم لو وجد من يستحق العبادة مع الله أحد غير الله تعالى، بينما مطلوب دليل التمانع هو إثبات توحيد الربوبية بفساد العالم لو وجد خالق آخر للعالم.

كما استدلت الماتريدية بأدلة أخرى كاستدلالها بتناهي العالم وآيات الأنبياء والرسل واتساق العالم ودقة صنعه، وقد نص على هذا الماتريدي في كتاب (التوحيد) بقوله: "والدلالة أن محدث العالم واحد، اتفاق القول على أن الواحد اسم لابتداء العدد واسم للعظمة والسلطان والرفعة والفضل، كما يقال فلان واحد الزمان، ومنقطع القرين في الرفعة والفضل والجلال، وما جاوز ذلك لا يحتمل غير العدد فيجب أن يكون العالم غير متناه إذ لو كان منهم شيء واحد فيخرج الجملة عن التناهي بخروج المحدثين وذلك بعيد، ثم ما من عدد يشار إليه إلا وأمكن من الدعوى أن يزاد عليه وينقص منه؛ فلم يجب القول بشيء لما لا حقيقة لذلك بحق العدد لا يشارك فيه غيره لذلك بطل القول به " (٣).

وقال في استدلاله بآيات الأنبياء والرسل واتساق العالم: "إنه لم يذكر عن غير الإله الذي يعرفه أهل التوحيد دعوى الألوهية والإشارة إلى أثر فعل منه يدل على ربوبيته، ولا وجد في شيء معنى أمكن إخراجه عن حمله، ولا بعث رسلا بالآيات التي تقهر العقول ويبهر لها فتثبت أن القول بذلك خيال ووسواس.

ومجيء الرسل بالآيات التي يضطر من شهدها أنها فعل من لو كان معه شريك ليمنعهم عن إظهارها إذ بذلك إبطال ربوبيتهم وألوهيتهم، فإذا لم يوجد ولا منعوا عن ذلك مع كثرة المكابرين لهم والمعاندين ممن لو أحبوا وجود الإبصار لهم في إظهار آياتهم لوجدوا؛ فثبت أن ذلك إنما سلم للرسل لما لم يكن الإله الحق والخالق للخلق غير الواحد القهار الذي قهر كل متعنت مكابر عن التمويه فضلا عن التحقيق" (٤).


(١) انظر: درء تعارض العقل والنقل: ٩/ ٣٥٤، ٣٥٥.
(٢) التوحيد: ٢٠، ٢١، المسايرة: ٤٢ - ٤٨.
(٣) التوحيد: ١٩.
(٤) التوحيد: ٢٠، ٢١.

<<  <   >  >>