للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَكَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ، لِبَقَائِهَا عَلَى حَالِ التَّحْرِيمِ الَّذِي كَانَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَلَكِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَبَاحَهَا لَهُمْ، فَلَمْ يَسْتَحِقُّوا الْعِقَابَ بِأَخْذِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ: قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: ٦٩] وَلَوْ كَانُوا آخِذِينَ لِمَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ لَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَبِقَتْلِ مَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْأَسْرَى، إذْ كَانَ الْمَنُّ وَأَخْذُ الْفِدَاءِ خَطَأً، خِلَافُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُقِرُّ أَحَدًا عَلَى خِلَافِ حُكْمِهِ. وَفِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الْأَسْرَى إنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: ٧٠] . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَنْفَذَ لَهُمْ مَا أَخَذُوهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ كَتَحْرِيمِهِ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ لَمَسَّهُمْ فِي أَخْذِهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَأَخْبَرَ عَنْ مَوْضِعِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، بِإِبَاحَتِهِ أَخْذَهَا، لِئَلَّا يَسْتَحِقُّوا الْعِقَابَ إذَا أَخَذُوهَا. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: ٦٧] . يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَاخِلًا فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَثْخَنَهُمْ بِقَتْلِهِ رُؤَسَاءَهُمْ وَهَزِيمَةِ الْبَاقِينَ مِنْهُمْ، جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى، فَكَانَ سَبِيلُهُ فِي هَذَا الْبَابِ، سَبِيلُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، فِي أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ لَهُ الْأَسْرَى إلَّا بَعْدَ الْإِثْخَانِ، ثُمَّ خَالَفَ بَيْنَ حُكْمِهِ، وَبَيْنَ حُكْمِ سَائِرِ الْمُتَقَدِّمِينَ، بِأَنْ لَمْ يَجْعَلْ لِمَنْ تَقَدَّمَ أَخْذَ الْمَالِ مِنْ الْأَسْرَى، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُمْ الْمَنُّ بِغَيْرِ فِدَاءٍ، أَوْ الْقَتْلُ. وَأَبَاحَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْذَ الْفِدَاءِ. فَقَالَ تَعَالَى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: ٦٨] (بِأَنْ يُفَضَّلَ دُونَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ بِإِبَاحَةِ أَخْذِ الْفِدَاءِ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) . كَمَا لَوْ فَعَلَهُ مَنْ قَبْلَكُمْ مَعَ الْحَظْرِ.

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى تَبْقِيَةِ الْأَسْرَى بِالْفِدَاءِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ فِي أُولَئِكَ الْأَسْرَى مَنْ يُسْلِمُ، وَيَحْسُنُ إسْلَامُهُ إذَا اُسْتُبْقِيَ وُفُودِي بِهِ، وَيَنْجُو مِنْ عَذَابِ الْكُفْرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>