ــ ــ - الوحى كما دلت عليه سائر الأحاديث. ومنهم من قال: بل ثلاث مرات، مرة قبل الوحى، ومرتين بعده، وكل هذا خبط، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا فى القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات جعلوها مرة أخرى، فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع. والصواب الذى عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة. ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه مرارا كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه فى كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى، حتى تصير خمسا، ثم يقول: أمضيت فريضتى، وخففت عن عبادى، ثم يعيدها فى المرة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها عشرا عشرا؟! وقد غلط الحفاظ شريكا فى ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه، ثم قال: فقدم وأخر، وزاد ونقص، ولم يسرد الحديث، وأجاد رحمه الله» ص ١٣٠ ح ٢ زاد المعاد ط السنة المحمدية. وعن المعراج يقظة أو مناما يقول الإمام الجليل أيضا: «وقد نقل عن ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: إنما كان الإسراء بروحه، ولم يفقد جسده. ونقل عن الحسن البصرى نحو ذلك، ولكن ينبغى أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناما، وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، وعائشة ومعاوية لم يقولا: كان مناما، وإنما قالا: أسرى بروحه، ولم يفقد جسده. وفرق بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم فى الصور المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء، أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض، وروحه لم تصعد، ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال. والذين قالوا: عرج برسول الله- صلى الله عليه وسلم- طائفتان، طائفة قالت: عرج بروحه وبدنه، وطائفة قالت: عرج بروحه، ولم يفقد بدنه، وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناما، وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسرى بها، وعرج بها حقيقة، وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة، وكان حالها فى ذلك كحالها بعد المفارقة فى صعودها إلى السماوات سماء سماء، حتى ينتهى بها-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ ــ - إلى السماء السابغة، فتقف بين يدى الله عز وجل، فيأمر فيها بما يشاء، ثم تنزل إلى الأرض. والذى كان لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة، ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم، لكن لما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى مقام خرق العوائد.. عرج بذات روحه المقدسة حقيقة من غير إماتة، ومن سواه لا ينال بذات روحه الصعود إلى السماء إلا بعد الموت والمفارقة» ص ١٢٨ المصدر السابق، وهو تأويل جيد للامام الجليل. ويقول الإمام الشوكانى: «وقد اختلف أهل العلم: هل كان الإسراء بجسده مع روحه، أو بروحه فقط؟ فذهب معظم السلف والخلف إلى الأول، وذهب إلى الثانى طائفة من أهل العلم، منهم: عائشة ومعاوية والحسن وابن إسحاق، وحكاه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان، وذهبت طائفة إلى التفصيل، فقالوا: كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس» وإلى السماء بالروح، واستدلوا على هذا التفصيل بقوله: إلى المسجد الأقصى، فجعله غاية للاسراء بذاته، فلو كان الإسراء من بيت المقدس إلى السماء وقع بذاته لذكره، والذى دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من أن الإسراء بجسده وروحه يقظة إلى بيت المقدس، ثم إلى السماوات، ولا حاجة إلى التأويل، ص ١٩٩ ح ٢ فتح القدير ط مصطفى البابى الحلبى. ولو أن الشوكانى قال: بعض الأحاديث الصحيحة، لكان أوفق لأن بعض الأحاديث الصحيحة أيضا تدل على أنه كان بروحه. تاريخ الإسراء: كما يتحدث الإمام الشوكانى عن تاريخ الإسراء بقوله: «وقد اختلف أيضا فى تاريخ الإسراء، فروى أن ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة، وروى أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام، ووجه ذلك أن خديجة صلت مع النبى صلى الله عليه وسلم، وقد ماتت قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل بثلاث، وقيل بأربع، ولم تفرض الصلاة إلا ليلة الإسراء، وقد استدل بهذا ابن عبد البر على ذلك، وقد اختلفت الرواية عن الزهرى. وممن قال: بأن-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ ــ - الإسراء كان قبل الهجرة بسنة الزهرى فى رواية عنه، وكذلك الحربى، فإنه قال: أسرى بالنبى صلى الله عليه وسلم ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة. وقال ابن القاسم فى تاريخه: كان الإسراء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من أهل السير قال يمثل هذا. وروى عن الزهرى أنه أسرى به قبل مبعثه بسبعة أعوام، وروى عنه أنه قال: كان قبل مبعثه بخمس سنين، وروى يونس عن عروة عن عائشة أنها قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة» ص ٢٠٠ المصدر السابق. وأقول: سبق أن بينت أن القرآن يؤكد أن الصلاة فرضت فى بداية مبعثه صلى الله عليه وسلم. وقد تحدث السهيلى عن قوله سبحانه (ثم دنا فتدلى) الخ وإليك رأى السلف فى هذا ينقله الإمام ابن القيم أيضا، وأنا أنقله عنه من المصدر السابق: «وأما قوله تعالى فى سورة النجم (ثم دنا فتدلى) فهو غير الدنو والتدلى فى قصة الإسراء، فإن الذى فى سورة النجم هو: دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود، والسياق يدل عليه، فإنه قال: (علمه شديد القوى) وهو جبريل: (ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى) فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وهو ذو المرة- أى القوة- وهو الذى استوى بالأفق الأعلى، وهو الذى دنا فتدلى، فكان محمد- صلى الله عليه وسلم- قدر قاب قوسين أو أدنى، فأما الدنو والتدلى الذى فى حديث الإسراء، فذلك صريح فى أنه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه، ولا تعرض فى سورة النجم لذلك، بل فيها أنه رآه نزلة آخرى عند سدرة المنتهى. وهذا هو جبريل رآه محمد- صلى الله عليه وسلم- على صورته مرتين مرة فى الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى» ص ١٢٧ المصدر السابق. وبهذا يسقط استدلال السهيلى بأن الإسراء كان مرتين. وعن مسألة رؤية النبى صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج يقول الإمام ابن القيم أيضا: «واختلف الصحابة: هل رأى ربه تلك اليلة أم لا؟ فصح-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ ــ - عن ابن عباس أنه رأى ربه، وصح عنه أنه قال: رآه بفؤاده، وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك، وقالا: إن قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) إنما هو جبريل، وصح عن أبى ذر أنه سأله: هل رأيت ربك، فقال: نور أنى أراه أى حال بينى وبين رؤيته النور، كما قال فى لفظ آخر: رأيت نورا، وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمى اتفاق الصحابة على أنه لم يره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: وليس قول ابن عباس إنه رآه مناقضا لهذا، ولا قوله: رآه بفؤاده، وقد صح عنه أنه قال: رأيت ربى تبارك وتعالى، ولكن لم يكن هذا فى الإسراء، ولكن كان فى المدينة لما احتبس فى صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة فى منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد، وقال: نعم رآه حقا، فإن رؤيا الأنبياء حق، ولا بد. ولكن لم يقل أحمد: إنه رآه بعينى رأسه يقظة، ومن حكى عنه ذلك، فقد وهم عليه، ولكن قال مرة: رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده، فحكيت عنه روايتان؛ وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعينى رأسه؟ وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك، وأما قول ابن عباس إنه رآه بفؤاده مرتين، فإن كان استناده إلى قوله تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى) ثم قال: (ولقد رآه نزلة أخرى) - والظاهر أنه مستنده- فقد صح عنه- صلى الله عليه وسلم- أن هذا المرئى جبريل، رآه مرتين فى صورته التى خلق عليها، وقول ابن عباس هذا هو مستند الإمام أحمد فى قوله: رآه بفؤاده، والله أعلم» ص ٢٧ المصدر السابق. وقد يقال: رأى آخر هو أن الإسراء به صلى الله عليه وسلم كان بجسده وروحه، أما المعراج فكان بروحه كما شرح الإمام ابن القيم، بدليل ما ورد فى بعض الروايات. فرواية شريك لا يذكر فيها الإسراء مطلقا. وفى رواية عن أنس أيضا: «بينا أنا نائم إذ جاء جبريل عليه السلام، فوكز بين كتفى، فقمت إلى شجرة فيها كوكرى الطير، فقعد فى أحدهما، وقعدت فى الاخر، فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين، وأنا أقلب طرفى، ولو شئت أن أمس السماء لمست، ... هذه أيضا لم يأت فيها ذكر للإسراء إلى المسجد الأقصى، ولا للبراق. وفى رواية-