مثل هؤلاء لا يجتمعون إلا على دليل راجح, واستدل عليه الإمام وأتباعه بقوله -عليه الصلاة والسلام:"إن المدينة لتنفي خبثها""ووجه الاستدلال" أن الحديث قد دل على انتفاء الخبث عن المدينة والخطأ خبث, فيجب أن يكون منفيا عن أهلها فإنه لو كان في أهلها لكان فيها، وإذا انتفى عنهم الخطأ كان إجماعهم حجة. قوله:"وهو ضعيف" أي: الاستدلال بالحديث لا الحديث نفسه, فإنه ثابت في الصحيحين وإن كان بغير هذا اللفظ, وأقرب لفظ إليه ما رواه البخاري:"إنما المدينة كالكير, تنفي خبثها وينصع طيبها" وقد ضعف ابن الحاجب الاستدلال بهذا الحديث أيضا ولم يبين ما ضعفه, ووجهه أن الحمل على الخطأ متعذر لمشاهدة وقوعه من أهلها. قال إمام الحرمين: ولو اطلع مطلع على ما يجري بين لابتيها من المخازي لقضى العجب، وأيضا فلا نسلم أن الخطأ خبث لأن الخطأ معفو عنه والخبث منهي عنه, ومنه قوله -عليه الصلاة والسلام:"الكلب خبيث, وخبيث ثمنه" وكقوله: "مهر البغي خبيث" ونحوه, فيكون أحدهما غير الآخر. وقد انتصر في المحصول لمالك وقوى هذا الدليل وقال: إن مذهبه فيه ليس ببعيد، وذهب بعضهم كما حكاه الآمدي وغيره إلى أن إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة, والمصرين البصرة والكوفة حجة على غيرهم, وقيل: بل إجماع الكوفة والبصرة فقط حكاه الشيخ أبو إسحاق في اللمع، وقيل: إجماع الكوفة وحدها كما نقل حكاية عن ابن حزم، وقيل: إجماع الكوفة وحدها أو البصرة وحدها كما نقله بعض شراح المحصول. المسألة الرابعة: ذهبت الشيعة كالإمامية والزيدية إلى أن إجماع العترة حجة وأرادوا بالعترة عليا وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين وهي بالتاء المثناة واحتجوا بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: ٣٣] ووجه الاستدلال أن الله تعالى أخبر عن نفي الرجس عن أهل البيت والخطأ رجس، فيكون منفيا عنهم، وإذا كان الخطأ منفيا عنهم كان إجماعهم حجة، وأهل البيت هم: علي وفاطمة وابناهما -رضي الله عنهم- لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لف عليهم كساء لما نزلت هذه الآية وقال:"هؤلاء أهل بيتي" وأيضا فقد نقله ابن عطية في تفسيره١ عن الجمهور. وأما السنة فقوله -عليه الصلاة والسلام:"إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله, وعترتي" فإنه كما دل على أن الكتاب حجة, دل على أن قول العترة حجة, ولم يشتغل المصنف بالجواب عما ذكروه، فنقول: الجواب عن الآية أنا لا نسلم انتفاء الرجس في الدنيا لجواز أن يكون المراد به نفي العذاب في الآخرة, سلمنا لكن لا نسلم أن الخطأ رجس, سلمنا لكن المراد بأهل البيت هؤلاء مع أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن ما قبل الآية وما
١ ابن عطية: عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي, من محارب قيس، الغرناطي، أبو محمد، مفسر وفقيه، أندلسي، عارف بالأحكام والحديث, وتوفي في بلورقة عام "٤٨١هـ"، وله المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز, في عشرة مجلدات "الأعلام ٣/ ٢٨٢".