للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقوعه، فذهب القاضي أبو بكر وأبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم إلى أن المجتهد يتخير بينهما، وجزم به الإمام والمصنف في الكلام على تعارض النصين كما سيأتي. وقال بعض الفقهاء: يتساقطان ويرجع المجتهد إلى البراءة الأصلية، ثم إذا قلنا بالتخيير فوقع هذا التعادل للمجتهد، فإن كان في أمر يتعلق به عمل بما شاء، وإن تعلق بغيره، فإن كان في استفتاء خير المستفتي، وإن كان في حكم فلا يخير الخصمين بل يجب عليه الحكم بإحدى الأمارتين على التعيين؛ لأنه منصوب لدفع الخصومات، فلو خير الخصمين لم تنقطع الخصومة بينهما؛ لأن كل واحد منهما يختار ما هو أوفق لهواه، وعلى هذا فلو حكم بإحدى الأمارتين لم يجز له بعد ذلك أن يحكم بالأمارة الأخرى، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر -رضي الله عنه: "لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين". قال: "مسألة: إذا نقل عن مجتهد قولان في موضوع واحد يدل على توقفه، ويحتمل أن يكونا احتمالين أو مذهبين، وإن نقل في مجلسين وعلم المتأخر منهما فهو مذهبه، وإلا حُكي القولان، وأقوال الشافعي رضي الله عنه كذلك, وهو دليل على علو شأنه في العلم والدين".

أقول: هذه المسألة في حكم تعارض القولين المنقولين عن مجتهد واحد، ولا شك أن تعارضهما بالنسبة إلى المقلدين له كتعارض الأمارتين بالنسبة إلى المجتهدين، فلذلك ذكرها في بابه, وحاصله أنه إذا نقل عن مجتهد واحد في حكم واحد قولان متنافيان فله حالان، أحدهما: أن يكون ذلك في موضع واحد، بأن يقول مثلا: هذه المسألة فيها قولان، فيستحيل أن يكون المراد أنهما له في ذلك الوقت لاستحالة اجتماع النقيضين، وحينئذ فينظر فيه ذكر عقب ذلك ما يدل على تقوية أحدهما، مثل أن يقول: هذا أشبه، أو يفرع عليه فيكون ذلك مذهبه، وإن لم يذكر شيئا من ذلك فإنه يدل على توقفه في المسألة لفقدان الرجحان عنده، وحينئذ فقوله: إن فيها قولين، يحتمل أن يريد بذلك احتمالين على سبيل التجوز, أن في المسألة احتمال قولين لوجود دليلين متساويين، ويحتمل أن يريد أن فيها مذهبين لمجتهدين، وإنما نص عليهما لئلا يتوهم من أراد من المجتهدين الذهاب إلى أحدهما أنه خارق للإجماع، هذا هو حاصل كلام المصنف، وأما جعل بعض الشارحين التوقف احتمال آخر قسما للاحتمالين الآخرين فليس موافقا لما قاله الإمام وغيره، ولا مطلقا لعبارة الكتاب، ولا صحيحا من جهة المعنى؛ لأن معنى توقفه بين الشيئين هو أن يكون كل منهما محتملا عنده، وبتقدير المغايرة، فلم رجحنا التوقف على كونهما احتمالين؟ نعم إن أراد المصنف صدور الاحتمالين عن غيره، أو إمكان صدورهما عنه أي: عن ذلك الغير، مع أنه لا يرد بذلك فهو قريب، ونقل في المحصول عن بعضهم أن إطلاق القولين يقتضي التخيير، ثم ضعفه الحال. الثاني: أن يكون نقل القولين عن المجتهد في مجلسين بأن ينص مثلا في كتاب على إباحة شيء وينص في الآخر على تحريمه، فإن

<<  <   >  >>