للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مال إلى الجواز فقال: ولقائل أن يقول: قد انعقد الإجماع في زماننا على جواز العمل بهذا النوع من الفتوى؛ لأنه ليس في هذا الزمان مجتهد، والإجماع حجة، وهذا الذي مال إليه قد صرح المصنف باختياره واستدل له مما ذكرناه، وهو دليل ضعيف فإن الإجماع إنما يعتبر من المجتهدين, فإذا لم يوجد مجتهد في هذا الزمان لم يعتبر إجماع أهله، والأولى في الاستدلال أن يقال: لو لم يجز ذلك لأدى إلى فساد أحوال الناس وتضررهم، ولو بطل قول القائل بموته لم يعتبر شيء من أقواله لروايته وشهادته ووصاياه, وما استدل به الخصم من انعقاد الإجماع على خلافه فممنوع، لما سبق فيه من الخلاف, وإن سلم فهو معارض بحجية الإجماع بعد موت المجمعين. قال: "الثانية: يجوز الاستفتاء العامي لعدم تكليفهم في شيء من الأعصار بالاجتهاد وتفويت معاشهم واستضرارهم بالاشتغال بأسبابه دون المجتهد لأنه مأمور بالاعتبار. قيل: معارض بعموم: {فَاسْأَلُوا} [الأنبياء: ٧] {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} [النساء: ٥٩] وقول عبد الرحمن لعثمان: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وسيرة الشيخين، قلنا: الأول مخصوص وإلا لوجب بعد الاجتهاد، والثاني: في الأقضية، والمراد من السيرة لزوم العدل". أقول: المسألة الثانية: في المستفتي، أي: فيمن يجوز له الاستفتاء ومن لا يجوز, فنقول: اختلفوا في أن من لم يبلغ رتبة الاجتهاد هل يجوز له الاستفتاء في الفروع؟ فيه ثلاثة مذاهب حكاها الإمام أصحها عنده وعند الإمام وأتباعهما يجوز مطلقا، بل يجوز. والثاني: لا، بل يجب عليه أن يقف على الحكم بطريقة, وإليه ذهب المعتزلة البغدادية. وثالثها: قال به الجبائي: يجوز ذلك في المسائل الاجتهادية كإزالة النجاسة بالخل ونحوه، دون المسائل المنصوصة كتحريم الربا في الأشياء الستة مثلا، والخلاف كما قال ابن الحاجب جارٍ في غير المجتهد، سواء كان عاميا محضا "عاما" ثم استدل المصنف على الجواز بأمرين أحدهما: إجماع السلف عليه؛ لأن العوام لم يكلفوا في شيء من الأعصار باجتهاد, فلو كانوا مأمورين بذلك لكلفوهم به، وأنكروا عليهم العمل بفتاويهم، مع أنه لم يقع شيء من ذلك. الثاني: أن تكليفهم بالاجتهاد يؤدي إلى تفويت معايشهم واستضرارهم بالاشتغال لتحصيل أسبابه، وذلك سبب لفساد الأحوال فيكون القول باطلا. قوله: "دون المجتهد" أي: فإنه لا يجوز له الاستفتاء، أي: لا بعد الاجتهاد اتفاقا كما قاله الآمدي وابن الحاجب، ولا قبله على المختار عندهما وعند الإمام وأتباعه؛ لأنه مأمور بالاعتبار أي: الاجتهاد لقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} فإنه عام شامل للعامي وللمجتهد، وترك العمل به بالنسبة إلى العامي تعجزه عن الاجتهاد, فيبقى معمولا به في حق المجتهد، وحينئذ فلو جاز له الاستفتاء لكان تاركا الاعتبار المأمور به، وتركه لا يجوز، وقد حكى الآمدي وابن الحاجب في المسألة سبعة مذاهب تعرض الإمام لأكثرها، وأصحها ما قاله المصنف, والثاني: يجوز مطلقا وهو مذهب أحمد،

<<  <   >  >>