للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

دائرة مع هذه الأوصاف وجودا وعندما دل على أنها علة لها؛ لأن الدوران يدل على العلية، ثم إن هذه الأوصاف التي حكمنا بأنها علة للإباحة وجدناها في مسألتنا فحكمنا بإباحتها، وإنما قال عن أمارة المفسدة ولم يقل عن المفسدة؛ لأن العبرة في القبح إنما هو بالمفسدة المستندة إلى الأمارة، فأما المفسدة الخالية من الأمارة فلا اعتبار بها، ألا ترى أنهم يلومون من جلس تحت حائط مائل وإن سلم، دون الحائط المستقيم، وإن وقعت عليه والتمثيل باقتباس فاسد؛ لأن الاقتباس هو أخذ جزء من النار وهو لا يجوز بغير الإذن قطعا، قال الجوهري: القبس: شعلة من نار وكذلك المقباس يقال: قبست منه نارا أقبس قبسا فأقبسني أي: أعطاني منه قبسا وكذلك اقتبست منه نارا، هذا لفظه بحروفه، فكان الصواب أن يقول: والاستضاءة بناره وشبهه، ولذلك لم يذكر الإمام هذا المثال، وإنما ذكره صاحب الحاصل فتبعه المصنف عليه، وأما التمثيل بالاستظلال فليس مجمعا عليه بل فيه خلاف في مذهبنا حكاه الإمام في النهاية في كتاب الصلح في الجدار لمالكين يقع فينفرد أحدهما ببنائه. الدليل الثاني: أن الله تعالى خلق المآكل اللذيذة لغرضنا إذ لو كان لا لغرض البتة لكان عبثا وهو على الله تعالى محال، ولو كان لغرض راجع إليه لكان مفتقرا إليه، والبارئ سبحانه وتعالى مستغن عن كل شيء، فتعين أن يكون لغرضنا, وذلك الغرض ليس هو الإضرار بالاتفاق من العقلاء، فتعين أن يكون خلقها للنفع، وذلك النفع إما أن يكون دنيويا كالتلذذ والاغتذاء، أو دينيا عمليا، كالاجتناب مع الميل لكون تناولها مفسدة, فيستحق الثواب باجتنابها كالخمر، أو دينيا عمليا كالاستدلال بها، أي يشتهي طعومها على كمال قدرة الله تعالى، كما قال في الحاصل وذلك كله لا يحصل إلا بالتناول، أما الأول والثاني والرابع فواضح، وأما الثالث؛ فلأن ميل النفس إلى الشيء إنما يكون بعد تقدم إدراكه, فلزم من ذلك كله أن يكون الغرض في خلقها هو التناول؛ لأنا قررنا أن الخلق لغرض، وأن الغرض هو نفع، وأن النفع محصور في الأربعة، وأن الأربعة لا تحصل إلا بالتناول فينتج أن الخلق لأجل التناول، وإذا كان كذلك كان التناول مباحا. "واعلم" أن ذكر الاغتذاء في هذا التقسيم مفسد؛ لأن الاغتذاء لا يحرم قطعه لكونه مضطرا إلى تناول ما يغذيه كما قدمناه في أول المسألة، فالصلح للاغتذاء ليس مما نحن فيه، فلم يبق إلا الثلاثة الأخيرة. لا جرم أن الإمام لم يذكر هذا القسم في المحصول ولا في المنتخب, نعم ذكره صاحب الحاصل فتابعه المصنف عليه. قوله: "وأجيب عن الأول" أي: الجواب عن الدليل الأول، وهو القياس على الاستظلال والاقتباس بجامع الانتفاع المذكور من وجهين, أحدهما: لا نسلم أن الأصل المقيس عليه وهو الاستظلال والاقتباس مباح قبل الشرع؛ لأنه فرد من أفراد المسألة, وإباحته الآن إنما ثبتت بالشرع, والكلام فيما قبل الشرع لا فيما بعده. الثاني: سلمنا إباحة الأصل المقيس عليه، لكن لا نسلم أن العلة في إباحته وهذه الأوصاف، وهو الانتفاع

<<  <   >  >>