للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قولك "زيد أمامك، وعمرو وراءك" زيد استقر في أمامك، وعمرو استقر في ورائك ثم حذف الحرف فاتصل الفعل بالظرف فنصبه، فالفعل الذي هو استقر مقدر مع الظرف، كما هو مقدر مع الحرف.

وأما مَنْ ذهب من البصريين إلى أن الظرف ينتصب بتقدير اسم الفاعل -وهو مستقر- قال: لأن تقدير اسم الفاعل أولى من تقدير الفعل؛ لأن اسم الفاعل اسم يجوز أن يتعلق به حرف الجر، والاسم هو الأصل١، والفعل فرع، فلما وجب تقدير أحدهما كان تقدير الأصل أولى من تقدير الفرع.

والصحيح عندي هو الأول، وذلك لأن اسم الفاعل فرع على الفعل في العمل وإن كان هو الأصل في غير العمل؛ فلما وجب ههنا تقدير عامل كان تقدير ما هو الأصل في العمل -وهو الفعل- أولى من تقدير ما هو الفرعُ فيه وهو اسم الفاعل.

والذي يدل على صحة ما ذكرناه أنَّا وجدنا الظرف يكون صلة للذي، نحو: "رأيت الذي أمامك، والذي وراءك" وما أشبه ذلك؛ والصلة لا تكون إلا جملة فلو كان المقدر اسم الفاعل الذي هو مستقر لكان مفردًا؛ لأن اسم الفاعل مع الضمير لا يكون جملة، وإنما يكون مفردًا، والمفرد لا يكون صلة ألبتة، فوجب أن يكون المقدر الفعل الذي هو استقر، لأن الفعل مع الضمير يكون جملة؛ فدل على ما بيَّنَّاه.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن خبر المبتدأ في المعنى هو المبتدأ، وإذا قلت "زيد أمامك، وعمرو وراءك" فأمامك ليس هو زيد، ووراءك ليس هو عمرو، فلما كان مخالفًا له وجب أن يكون منصوبًا على الخلاف" قلنا: هذا فاسد؛ وذلك لأنه لو كان الموجب لنصب الظرف كونَهُ مخالفًا للمبتدأ لكان "المبتدأ" أيضًا يجب أن يكون منصوبًا؛ لأن المبتدأ مخالف للظرف كما أن الظرف مخالف للمبتدأ؛ لأن الخلاف لا يتصور أن يكون من واحد وإنما يكون من اثنين فصاعدًا؛ فكان ينبغي أن يقال "زيدًا أمامك" وعمرًا وراءك" وما أشبه ذلك؛ فلمالم يجز ذلك دلّ على فساد ما ذهبوا إليه.

وأما قول أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب: "أنه انتصب بفعل محذوف غير مقدر، إلى آخر ما قرر" ففاسد أيضًا؛ وذلك لأنه يؤدِّي إلى أن يكون منصوبًا بفعل


١ لأن تقدير الاسم لا يحوج إلى تقدير آخر، بخلاف تقدير الفعل فإنه يحوج إلى تقدير آخر، وما لا يحوج إلى التقدير أصل لما يحوج إليه. وأيضًا لأن الاسم مفرد، والفعل مع فاعله جملة، والمفرد أصل، والجملة فرع عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>