للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولم يأتِ بالجواب؛ لأن هذا البيت آخر القصيدة؛ والتقدير فيه: حتى إذا أسلكوهم في قُتَائدة شُلُّوا شلًّا، فحذف للعلم به توخّيًا للإيجاز والاختصار على ما بيَّنَّا.

ثم حذف الجواب أبلغ في المعنى من إظهاره، ألا ترى أنك لو قلت لعبدك "والله لئن قمت إليك" وسكتَّ عن الجواب ذهب فكره إلى أنواع من العقوبة والمكروه من القتل والقطع والضرب والكسر، فإذا تمثلَتْ في فكره أنواع العقوبات وتكاثرت عظمت الحال في نفسه ولم يعلم أيها يتقي؛ فكان أبلغ في رَدْعِهِ وزَجْرِهِ عما يُكْرَه منه، ولو قلت "والله لئن قمت إليك لأضربنك" وأظهرت الجواب لم يذهب فكره إلى نوع من المكروه سوى الضرب؛ فكان ذلك دون حذف الجواب في نفسه؛ لأنه قد وَطَّنَ له نفسَه فيسهل ذلك عليه، قال كثير:

[٢٩١]

وقلت له: يا عَزَّ كُلّ مُلِمَّةٍ ... إذا وُطِّنَتْ يومًا لها النفسُ ذَلَّتِ

وكذلك الحال في الإحسان، نحو "والله لئن زرتني": إذا حذفت الجواب تصورت له أنواع الإحسان إليه من إكرامه والإنعام عليه؛ فكان ذلك أبلغ في استدعائه إلى الزيارة وإسراعه إليها، ولو قلت "والله لئن زرتني لأعطيتك درهما" لم يذهب فكره إلى غير الدرهم قط١؛ فكان ذلك دون حذف الجواب في نفسه؛ لأنه ربما يكون مستغنيا عنه غير راغب فيه؛ فلا يدعوه ذلك إلى الزيارة، وإذا حذفت الجواب تصورت له أنواع الإحسان إليه؛ فكان ذلك أدعى له إلى الزيارة، كما كان الأول أدعى إلى الترك، على ما بيَّنَّا، والله أعلم.


[٢٩١] هذا البيت لكثير عزة، وقد أنشده ابن منظور "وط ن" وعزاه إليه، وعنده "كل مصيبة" والملمة: أصله اسم الفاعل المؤنث من قولهم "ألم بفلان أمر" أي نزل به، ثم استعملوه في النازلة من نوازل الدهر، وقوله "وطنت" هو بالبناء للمجهول مشدد الطاء مكسورة -من قولهم "وطن فلان نفسه على الأمر، ووطن نفسه للشيء" إذا حملها عليه فتحملته، وهو شبه التمهيد لقبولها ذلك الشيء، وذلت: انقادت وخضعت واحتملت ما حملها، والاستشهاد بالبيت في معناه، وهو أن كل شيء يعرض للإنسان إذا مهد نفسه لقبوله قبلته نفسه ورضيت به وصبرت عليه وإن كان مما يشق عليها احتماله. وشبه المؤلف جواب الشرط بهذا الأمر. فإن كان مذكورًا في الكلام كأن تقول "إن تلعب أضربك" وطن السامع نفسه على قبوله وراضها على أن تخضع له؛ فمتى وقع لم يكن شيئًا غريبًا على نفسه، وإن لم يذكر في الكلام كأن تقول "من يفعل كذا" وتقف عند ذلك، فإن السامع يتخيل كل ضرب من أضرب الثواب أو العقوبة المترتبة على فعله، فإذا وقع شيء منها كان جديدًا على نفسه؛ لأنه لم يقدره بذاته، وهذا واضح إن شاء الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>