للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهو محمول على أنه بمعنى وَدَّعَ بالتشديد فخفَّف، وهو على كل حال من الشاذ الذي لا يعتدُّ به في الاستعمال. وإذا كان كذلك وجب أن تكون الجملة التي بعدها مخالفة لما قبلها؛ ليكونا خبرين مختلفين.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنا أجمعنا على أن بل يجوز العطف بها بعد النفي والإيجاب فكذلك لكن لاشتراكهما في المعنى" قلنا: إنما شاركت لكن بل في النفي دون الإيجاب؛ لأن مشاركتها لها في النفي صواب وليس على سبيل النسيان والغلط؛ ألا ترى أنك إذا قلت في النفي "ما جاءني زيد لكن عمرو" لم توجب نسيانًا ولا غلطًا كما لو قلت "ما جاءني زيد بل عمرو" وإذا كان استعماله في النفي لا يوجب نسيانا ولا غلطا، فتكثير ما هو صواب لا يُنْكَر، بخلاف استعماله في الإيجاب؛ فإنه يوجب النسيان والغلط، والنسيان والغلط إنما يقع نادرًا قليلًا، فاقتصر فيه على حرف واحد وهو "بل".

ثم ليس من ضرورة تشارك لكن وبل في بعض الأحوال مشاركتهما في كل الأحوال، ألا ترى أن "بل" لا يحسُنُ دخول الواو عليها؟ ولا يقال "وبل" و"لكن" يحسن دخول الواو عليها فيقال "ولكن" قال الله تعالى: "وَلَكِنِ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا" [البقرة: ١٠٢] في قراءة من قرأ بالتخفيف، وكذلك قوله: "وَلَكِنِ البر" [البقرة: ١٧٧] والشواهد على ذلك من كتاب الله وكلام العرب مما لا يحصى كثرة، وذلك لا يوجد البتة في "بل" فدلَّ على ما قلناه، والله أعلم.


= المفضلية الأربعين "انظر المفضليات ص١٩٠-٢٠٢ ط دار المعارف" وقبل البيت المستشهد به قوله:
كيف يرجون سقاطي بعدما ... لاح في الرأس بياض وصلع
ورث البغضة عن آبائه ... حافظ العقل لما كان استمع
يصف شانئه بأنه ورث بغضه عن آبائه، وسمعهم يذكرون العداوة وأسبابها ويشتمونه فحفظ ذلك عنهم بعد أن وعاه وعقله، ومسعاتهم: سعي آبائه، ورواها المؤلف "مسعاته" يريد أنه سعى كما كانوا يسعون فلم يظهر بشيء كما لم يظفروا من قبل. والاستشهاد به في قوله "ودع" حيث استعمل الفعل الماضي الثلاثي المجرد، ومعناه ترك، والكلام فيه كالكلام في الشاهد السابق، قال ابن جني "إنما هذا على الضرورة؛ لأن الشاعر إذا اضطر جاز له أن ينطق بما ينتجه القياس وإن لم يرد به سماع -ثم أنشد بيت أبي الأسود، وهو الشاهد السابق- وعليه قراءة بعضهم: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} لأن الترك ضرب من القلى، فهذا أحسن من أن يعل باب استحوذ واستنوق الجمل لأن استعمال ودع مراجعة أصل، وإعلال استحوذ واستنوق ونحوهما من المصحح ترك أصل، وبين مراجعة الأصول وتركها ما لا خفاء به" ا. هـ. وانظر كتاب سيبويه "٢/ ٢٥٦"

<<  <  ج: ص:  >  >>