فهن عكوف كنوح الكريـ ... ـم قد شف أكبادهن الهوى ثم رأينا هم يقولون في هذا المعنى نفسه: شفشفه الهم والحزن، فعلمنا أنهم أرادوا أن يضعفوا العين على مثال قطع وهذب، فاجتمع عندهم ثلاث فاءات، وهم يكرهون اجتماع ثلاثة أمثال، ففروا من ذلك إلى إبدال الثانية حرفا آخر، ووجدوا أن أحسن ما يفعلون أن يبدلوه حرفا من جنس فاء الكلمة. [٤٩٠] هذا هو البيت الثامن عشر من قصيدة للأعشى ميمون بن قيس "الديوان ٦٧-٧٢" ومطلعها قوله: غشيت لليلى بليل خدورا ... وطالبتها ونذرت النذورا وقد أنشد البيت ابن منظور "ر ق ق" والزمخشري في أساس البلاغة "ر ق ق" ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "رقرقت" فإن الكوفيين يزعمون أن أصل هذا الفعل رققت بثلاث قافات، لأنه في الأصل رقّ بقافين، ومن قولهم رقّ الثوب يرق، وقالوا: أرقه، كما قالوا: أمده، وقالوا: رققه، كما قالوا: مدده، والرق -بكسر الراء وتشديد القاف- نبات له عود وشوك وورق أبيض، وقالوا: رقرقت الثوب بالطيب، يريدون أجريت الطيب فيه، وأصله رققت بثلاث قافات، فلما استثقلوا اجتماع الأمثال أبدلوا من ثانيها حرفا من جنس فاء الكلمة، على مثال ما ذكرنا في شرح الشاهد السابق، ولو تأملت في هذا البيت وجدت الاشتقاق مستصعبا في هذا البيت أكثر من استصعابه في البيت السابق، فيمكن أن يقال: إن تقارب كلمتين في اللفظ وفي المعنى لا يدل على أن إحداهما أصل للأخرى، حتى إنه لا يكفي أن يتقارب اللفظان ويتحد المعنيان، بل لا بد من أشياء وراء ذلك من الاشتقاق ومن الاستعمال، وكيف يكون تقارب اللفظين وتقارب المعنيين دليلا على أن إحدى الكلمتين أصل للأخرى وفي اللغة العربية المترادف والمشترك؟