فنقول: إ نما أعمل الأول منهما مراعاة للمعنى؛ لأنه لو أعمل الثاني لكان الكلام متناقضًا، وذلك من وجهين؛ أحدهما: أنه لو أعمل الثاني لكان التقدير فيه: كفاني قليل ولم أطلب قليلًا من المال، وهذا متناقض؛ لأنه يخبر تارة بأن سعيه ليس لأدنى معيشة، وتارة يخبر بأنه يطلب القليل، وذلك متناقض؛ والثاني: أنه قال في البيت الذي بعده:
ولَكِنَّمَا أسعى لمجد مُؤَثّلِ ... وقد يُدْرِكُ المجد المُؤَثّلَ أمثالي
فلهذا أعمل الأول ولم يعمل الثاني. وأما قول الآخر:
[٤٠]
وقد نغنى بها ونرى عصورًا ... بها يُقْتَدْننا الخردَ الخِدالا
فنول: إنما أعمل الأول مراعاة لحركة الرويّ؛ فإن القصيدة منصوبة، وإعمال الأول جائز، فاستعمل الجائز ليخلص من عيب القافية، ولا خلاف في الجواز، وإنما الخلاف في الأولى، وكذلك أيضًا قول الآخر:
[٤١]
"ولما أن تحمل آل ليلى" ... سمعت ببينهم نعب الغرابا
يدل على الجواز، وهو مُعَارض بأمثاله.
وأما قولهم "إن الفعل الأول سابق فوجب إعماله للعناية به" قلنا: هم وإن كانوا يُعْنَوْنَ بالابتداء إلا أنهم يعنون بالمقاربة والجِوَار أكثر، على ما بيّنا في دليلنا.
وأما قولهم "لو أعملنا الثاني لأدَّى إلى الإضمار قبل الذكر" قلنا: إنما جوزنا ههنا الإضمار قبل الذكر لأن ما بعده يفسّره؛ لأنهم قد يتسغنون ببعض الألفاظ عن بعض إذا كان في الملفوظ دلالة على المحذوف لعلم المخاطب، قال الله تعالي:{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا َالذَّاكِرَاتِ}[الأحزاب: ٣٥] فلم يعمل الآخر فيما أعمل فيه الأول استغناء عنه بما ذكره قبلُ، ولعلم المخاطب أن الثاني قد دخل في حكم الأول، وقال الله تعالى:{أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}[التوبة: ٣] فاستغنى بذكر خبر الأول عن ذكر خبر الثاني؛ لعلم المخاطب أن الثاني قد دخل في ذلك، قال ضابئ البُرْجُمِيُّ:
[٤٦]
فمن يَكُ أمسى بالمدينةِ رَحْلُةُ ... فإنِّي وقَيَّارٌ بها لغريبُ
[٤٦] هذا البيت -كما قال المؤلف- لضابئ بن الحارث البرجمي، وقد استشهد به سيبويه "١/ ٣٨" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم ٧٣٥" وفي أوضح المسالك "رقم ١٤٢" والأشموني "رقم ٢٧٤" وقوله "رحله" هو هنا بمعنى منزله، ويروى في مكانه "رهطه" ورهط الرجل: أهله وقومه الأقربون، و"قيار" ذكر أبو زيد في نوادره أنه اسم جمل الشاعر، ونقل عن الخليل بن أحمد أنه اسم فرس الشاعر، والاستشهاد بالبيت في قوله "إني وقيار لغريب" =