للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واستغنى بذكر خبر الآخر عن ذكر خبر الأول، وقال الفرزدق:

[٤٨]

إني ضَمِنْتُ لِمَنْ أَتَانِي ما جَنَى ... وأَبَى، فكنتُ وكان غَيْرَ غَدُورِ

فاستغنى بخبر الثاني عن الأول، والشواهدُ على هذا النحو كثيرة؛ فدلّ على جواز الإضمار ههنا قبل الذكر؛ لأن ما بعده يفسره، وإذا جاز الإضمار مع عدم تقدم ذكر المظهر لدلالة الحال عليه كما قال تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: ٣٢] يعني الشمس وإن لم يجرِ لها ذكر، وكما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: ٢٦] يعني الأرض، وكما قال الشاعر:

[٤٩]

على مثلها أَمْضِي إذا قال صاحبي: ... ألا لَيْتَنِي أَفْدِيكَ منها وأَفْتَدِي

يعني الفلاة وإن لم يجرِ لها ذكر؛ لدلالة الحال، فلأن يجوز ههنا الإضمار قبل الذكر لشريطة التفسير ودلالة اللفظ كان ذلك من طريق الأولى، ثم إن كان هذا ممتنعًا فينبغي أن لا يجوز عندكم، ولا خلاف بين جميع النحويين أنه جائز، إلا فيما لا يعدُّ خلافًا، فدلّ على فساد ما ذكرتموه، والله أعلم.


[٤٨] لم أجد هذا البيت في نسخ ديوان الفرزدق المطبوعة، وهو من شواهد سيبويه "١/ ٣٨" ومفرداته ومعناه مما لا يحتاج إلى شرح، والاستشهاد به في قوله "فكنت وكان غير غدور" فإن المؤلف قد زعم أن قوله "غير غدور" خبر لكان الثانية، وأن الشاعر قد حذف خبر كان الأولى ارتكانًا على انفهام المعنى وأن السامع سيفهم أن أصل الكلام فكنت غير غدور وكان غير غدور، فحذف خبر كان الأول لدلالة خبر كان الثانية عليه، فصار كما جاء في كلام الشاعر، لكن الذي ذكره المؤلف ليس بلازم، بل يجوز أن يكون المذكور هو خبر كان الأولى، وأن الشاعر قد حذف خبر كان الثانية لدلالة خبر الأولى عليه، بل هذا -وهو أن يكون المذكور خبر كان الأولى والمحذوف هو خبر كان الثانية- هو الأولى؛ لأنه هو الأكثر دورانًا على ألسنة العرب وهذا في المواضع التي يحتمل الكلام فيها الوجهين جميعًا كما في هذا البيت، أما المكان الذي يتعين فيه أحد الأمرين كالشواهد السابقة فإن الكلام يحمل على ما يتعين فيه، وهذه اللفتة ترجح مذهب الكوفيين في كون العامل المتقدم أولى بالإعمال في لفظ المعمول، نعني فيما لو احتمل الكلام إعمال كل منهما، فتنبه لذلك.
[٤٩] هذا البيت هو البيت التاسع والثلاثون من معلقة طرفة بن العبد البكري، وهو من أبيات في وصف ناقته. وقوله "على مثلها" يريد على مثل هذه الناقة الموصوفة، وأمضي: أي أسير، وقوله "ألا ليتني أفديك منها" الضمير عائد على الفلاة أي الصحراء وقد أتى بضمير الفلاة وإن لم يجر لها ذكر في الكلام قبل هذا؛ لأن المراد يفهم من سياق الكلام، ونظيره كما قال المؤلف قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} فإن المراد -والله أعلم- حتى توارت الشمس وراء الأفق، فأضمر في الفعل ضميرا يعود إلى الشمس وإن لم يجرِ لها ذكر في الكلام ارتكانًا على أن السامع سيفهم المقصود ويعرف المراد من سياق الكلام، وقول طرفة "ألا ليتني ... إلخ" واقع موقع قوله: إنا هالكون لأن السير في هذه الصحراء شاق عسير لا يتيسر لأحد أن يمضي فيه ويستمر عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>