للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَوْلُهُ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} قَالَ: سَبِيلًا.

وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمِنْهَاجًا} قَالَ: وَسُنَّةً. وَكَذَا رَوَى العَوْفِيّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} سَبِيلًا وَسُنَّةً.

وَكَذَا رُوي عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، والسُّدِّي، وَأَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ؛ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} أَيْ: سَبِيلًا وَسُنَّةً.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَيْضًا وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَكْسُهُ: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} أَيْ: سُنَّةً وَسَبِيلًا وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ، فَإِنَّ الشِّرْعَةَ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ أَيْضًا، هِيَ مَا يُبْتَدَأُ فِيهِ إِلَى الشَّيْءِ وَمِنْهُ يُقَالُ: "شَرَعَ فِي كَذَا" أَيِ: ابْتَدَأَ فِيهِ. وَكَذَا الشَّرِيعَةُ وَهِيَ مَا يُشْرَعُ مِنْهَا إِلَى الْمَاءِ. أَمَّا "الْمِنْهَاجُ": فَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ السَّهْلُ، وَالسُّنَنُ: الطَّرَائِقُ، فَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ أَظْهَرُ فِي الْمُنَاسَبَةِ مِنَ الْعَكْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَدْيَانِ، بِاعْتِبَارِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ الْكِرَامَ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْأَحْكَامِ، الْمُتَّفِقَةِ فِي التَّوْحِيدِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، دِينُنَا وَاحِدٌ" (١) يَعْنِي بِذَلِكَ التَّوْحِيدَ، الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ كُلَّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ، وَضَمَّنَهُ كُلَّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٥] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الْآيَةَ [النَّحْلِ: ٣٦] ، وَأَمَّا الشَّرَائِعُ فَمُخْتَلِفَةٌ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ حَرَامًا ثُمَّ يَحِلُّ فِي الشَّرِيعَةِ الْأُخْرَى، وَبِالْعَكْسِ، وَخَفِيفًا فَيُزَادُ فِي الشِّدَّةِ فِي هَذِهِ دُونَ هَذِهِ. وَذَلِكَ لِمَا لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ.

قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَة، عَنْ قَتَادَةَ: قَوْلَهُ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} يَقُولُ: سَبِيلًا وَسُنَّةً، وَالسُّنَنُ مُخْتَلِفَةٌ: هِيَ فِي التَّوْرَاةِ شَرِيعَةٌ، وَفِي الْإِنْجِيلِ شَرِيعَةٌ، وَفِي الْفُرْقَانِ شَرِيعَةٌ، يُحِلُّ اللَّهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَالدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ: التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ، الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ.

وَقِيلَ: الْمُخَاطَبُ بِهَذَا هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَمَعْنَاهُ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا} الْقُرْآنَ {مِنْكُمْ} أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} أَيْ: هُوَ لَكُمْ كُلِّكُمْ، تَقْتَدُونَ بِهِ. وحُذف الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ} أَيْ: جَعَلْنَاهُ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} أَيْ: سَبِيلًا إِلَى الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ، وَسُنَّةً أَيْ: طَرِيقًا وَمَسْلَكًا وَاضِحًا بَيِّنًا.


(١) صحيح البخاري" برقم (٣٤٤٣) .

<<  <  ج: ص:  >  >>