للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِقَوْلِهِمْ: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطِّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ العَدَنِيّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَة قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {مَغْلُولَةٌ} أَيْ: بَخِيلَةٌ.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} قَالَ: لَا يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّ يَدَ اللَّهِ مُوثَقَةٌ (١) وَلَكِنْ يَقُولُونَ: بَخِيلٌ أَمْسَكَ مَا عِنْدَهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَة، وَقَتَادَةَ، والسُّدِّي، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ وَقَرَأَ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الْإِسْرَاءِ:٢٩] . يَعْنِي: أَنَّهُ يَنْهَى (٢) عَنِ الْبُخْلِ وَعَنِ التَّبْذِيرِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وعبَّر عَنِ الْبُخْلِ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} .

وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي فنْحاص الْيَهُودِيِّ، عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ الَّذِي قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آلِ عِمْرَانَ:١٨١] فَضَرَبَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، يُقَالُ لَهُ: شَاسُ (٣) بْنُ قَيْسٍ: إِنَّ رَبَّكَ بَخِيلٌ لَا يُنْفِقُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}

وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِمْ مَا قَالُوهُ، وَقَابَلَهُمْ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ وَافْتَرَوْهُ وَائْتَفَكُوهُ، فَقَالَ: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} وَهَكَذَا (٤) وَقَعَ لَهُمْ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْبُخْلِ وَالْحَسَدِ وَالْجُبْنِ وَالذِّلَّةِ (٥) أَمْرٌ عَظِيمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (٦) ] } [النِّسَاءِ:٥٣ -٥٥] وَقَالَ تَعَالَى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاس (٧) ] } الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ:١١٢] .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} أَيْ: بَلْ هُوَ الْوَاسِعُ الْفَضْلِ، الْجَزِيلُ الْعَطَاءِ، الَّذِي مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَهُ خَزَائِنُهُ، وَهُوَ الَّذِي مَا بِخَلْقِهِ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي خَلَقَ لَنَا كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فِي لَيْلِنَا وَنَهَارِنَا، وَحَضَرِنَا وَسَفَرِنَا، وَفِي جَمِيعِ أَحْوَالِنَا، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (٨) {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} الْآيَةَ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤] . وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حنبل:


(١) في ر: "منفقة".
(٢) في أ: "نهى".
(٣) في أ: "النباس".
(٤) في أ: "هكذا".
(٥) في أ: "المذلة".
(٦) زيادة من ر، أ.
(٧) زيادة من ر، أ.
(٨) زيادة من ر.

<<  <  ج: ص:  >  >>