للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلِهَذَا قَالَ هُنَا: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ} أَيْ: لِأَكْثَرِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ {مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} أَيْ: وَلَقَدْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ فَاسِقِينَ خَارِجِينَ عَنِ الطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ. وَالْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ [عَلَيْهِمْ] (١) هُوَ مَا جَبَلَهُمْ عَلَيْهِ وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَصْلَابِ أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِهِ، فَخَالَفُوهُ وَتَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَعَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ، لَا مِنْ عَقْلٍ وَلَا شَرْعٍ، وَفِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَجَاءَتِ الرُّسُلُ الْكِرَامُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاء، فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وحَرّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحللتُ لَهُمْ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ" الْحَدِيثَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الْأَنْبِيَاءِ:٢٥] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزُّخْرُفِ:٤٥] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النَّحْلِ:٣٦] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} مَا رَوَى (٢) أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبيّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} قَالَ: كَانَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى يَوْمَ أَقَرُّوا لَهُ بِالْمِيثَاقِ، أَيْ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا لِعِلْمِ اللَّهِ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ أَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ فَآمَنُوا كَرْهًا.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} هَذَا كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا [لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] (٣) } [الْأَنْعَامِ:٢٨]

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) }

يَقُولُ تَعَالَى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} أَيِ: الرُّسُلَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُمْ، كَنُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ. {مُوسَى بِآيَاتِنَا} أَيْ: بِحُجَجِنَا وَدَلَائِلِنَا الْبَيِّنَةِ إِلَى {فِرْعَوْنَ} وَهُوَ مَلِكُ مِصْرَ فِي زَمَنِ مُوسَى، {وَمَلَئِهِ} أَيْ: قَوْمِهِ، {فَظَلَمُوا بِهَا} أَيْ: جَحَدُوا وَكَفَرُوا بِهَا ظُلْمًا مِنْهُمْ وَعِنَادًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى (٤) {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:١٤]


(١) زيادة من م.
(٢) في أ: "فقال".
(٣) زيادة من ك، أ. وفي هـ: "الآية".
(٤) في ك، م، أ: "كما قال تعالى".

<<  <  ج: ص:  >  >>