للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَقُولُ تَعَالَى: يُرِيدُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ {أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} (١) أَيْ: مَا بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، بِمُجَرَّدِ جِدَالِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، فَمَثَلُهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُطْفِئَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، أَوْ نُورَ الْقَمَرِ بِنَفْخِهِ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتِمَّ وَيَظْهَرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُقَابِلًا لَهُمْ فِيمَا رَامُوهُ وَأَرَادُوهُ: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}

وَالْكَافِرُ: هُوَ الَّذِي يَسْتُرُ الشَّيْءَ وَيُغَطِّيهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ اللَّيْلُ "كَافِرًا"؛ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْأَشْيَاءَ، وَالزَّارِعُ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْحَبَّ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الْحَدِيدِ: ٢٠] (٢)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} فَالْهُدَى: هُوَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِخْبَارَاتِ الصَّادِقَةِ، وَالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ -وَدِينُ الْحَقِّ: هِيَ الْأَعْمَالُ [الصَّالِحَةُ] (٣) الصَّحِيحَةُ النَّافِعَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أَيْ: عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوي لِي مِنْهَا" (٤)

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ: سَمِعْتُ شَقِيقَ بْنَ حَيَّانَ يُحَدِّثُ عَنْ مَسْعُودِ بْنِ قَبِيصة -أَوْ: قَبِيصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ -يَقُولُ: صَلَّى هَذَا الْحَيُّ مِنْ "مُحَارب" الصُّبْحَ، فَلَمَّا صَلَّوْا قَالَ شَابٌّ مِنْهُمْ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّهُ سَيُفْتَحُ لَكُمْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَإِنَّ عُمَّالَهَا فِي النَّارِ، إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ" (٥)

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأمرُ مَا بَلَغَ الليلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَر وَلَا وَبَر إِلَّا أَدْخَلَهُ هَذَا الدِّينَ، بعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ"، فَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الخيرَ والشرفَ والعزَّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلَّ وَالصَّغَارَ وَالْجِزْيَةَ (٦)

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ جَابِرٍ، سَمِعْتُ سُلَيْمَ بْنَ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَر وَلَا وَبَر، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ بعزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بذلِّ ذَلِيلٍ، إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللَّهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها" (٧)


(١) في ت، أ: "ليطفئوا" وهو خطأ.
(٢) في جميع النسخ: "يعجب" والصواب ما أثبتناه.
(٣) زيادة من ك.
(٤) صحيح مسلم برقم (٢٨٨٩) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
(٥) المسند (٥/٣٦٦) .
(٦) المسند (٤/١٠٣) وقال الهيثمي في المجمع (٦/١٤) : "رجال أحمد رجال الصحيح".
(٧) المسند (٦/٤) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (١٦٣١) "موارد" من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم عن الوليد بن مسلم به.

<<  <  ج: ص:  >  >>