للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} أَيْ: لَا يَفْهَمُونَ عَنِ اللَّهِ خِطَابَهُ، وَلَا يَقْصِدُونَ لِفَهْمِهِ وَلَا يُرِيدُونَهُ، بَلْ هُمْ فِي شَدَهٍ (١) عَنْهُ وَنُفُورٍ مِنْهُ فَلِهَذَا صَارُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ.

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩) }

يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: مِنْ جِنْسِهِمْ وَعَلَى لُغَتِهِمْ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ} [الْبَقَرَةِ: ١٢٩] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٤] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أَيْ: مِنْكُمْ وَبِلُغَتِكُمْ، كَمَا قَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِلنَّجَاشِيِّ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ لِرَسُولِ كِسْرَى: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ فِينَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِفَتَهُ، وَمُدْخَلَهُ وَمُخْرَجَهُ، وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيينة، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} قَالَ: لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ مِنْ وِلَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفاح".

وَقَدْ وُصِلَ هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرامهُرْمُزي فِي كِتَابِهِ "الْفَاصِلِ بَيْنَ الرَّاوِي وَالْوَاعِي": حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ يُوسُفُ بْنُ هَارُونَ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي لَحَدَّثَنِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ، مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى أَنْ وَلَدَنِي أَبِي وَأُمِّي لَمْ يَمَسَّنِي (٢) مِنْ سِفَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ شَيْءٌ". (٣)

وَقَوْلُهُ: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أَيْ: يَعِزُّ عَلَيْهِ الشَّيْءُ الَّذِي يَعْنَتُ أُمَّتَهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهَا؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ" (٤) وَفِي الصَّحِيحِ: "إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ" (٥) وَشَرِيعَتَهُ كُلَّهَا سَهْلَةٌ سَمْحَةٌ كَامِلَةٌ، يَسِيرَةٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ.

{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أَيْ: عَلَى هِدَايَتِكُمْ وَوُصُولِ النَّفْعِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ إِلَيْكُمْ.

قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ المقرئ،


(١) في ت، ك، أ: "شغل".
(٢) في ت، أ: "لم يصبني"، وفي ك: "لم يمسسني".
(٣) الفاصل بين الراوي والواعي (ص ١٣٦) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (٣٤٨٣) "مجمع البحرين" من طريق عبد الرحمن الرازي، عن محمد بن أبي عمر به، وفيه مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ متكلم فيه.
(٤) رواه أحمد في مسنده (٥/٢٦٦) عن أبي أمامة، و (٦/٢٣٣) عن عائشة رضي الله عنهما.
(٥) صحيح البخاري برقم (٣٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>