للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (٨) }

يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ قَضَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ، أَيْ: تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ وَأَخْبَرَهُمْ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ سَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَيَعْلُونَ (١) عُلُوًّا كَبِيرًا، أَيْ: يَتَجَبَّرُونَ وَيَطْغَوْنَ وَيَفْجُرُونَ عَلَى النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الْحِجْرِ: ٦٦] أَيْ: تَقَدَّمْنَا إِلَيْهِ وَأَخْبَرْنَاهُ بِذَلِكَ وَأَعْلَمْنَاهُ بِهِ.

وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} أَيْ: أُولَى الْإِفْسَادَتَيْنِ {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أَيْ: سَلَّطْنَا عَلَيْكُمْ جُنْدًا مِنْ خَلْقِنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، أَيْ: قُوَّةٍ وَعُدَّةٍ وَسُلْطَةٍ (٢) شَدِيدَةٍ {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} أَيْ: تَمَلَّكُوا بِلَادَكُمْ وَسَلَكُوا خِلَالَ بُيُوتِكُمْ، أَيْ: بَيْنَهَا وَوَسَطَهَا، وَانْصَرَفُوا ذَاهِبِينَ وَجَائِينَ لَا يَخَافُونَ أَحَدًا {وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا}

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي هَؤُلَاءِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَيْهِمْ: مَنْ هُمْ؟ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّهُ جَالُوتُ الجَزَريّ وَجُنُودُهُ، سُلِّطَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا ثُمَّ أُدِيلُوا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُ مَلِكُ الْمَوْصِلِ سِنْجَارِيبُ وَجُنُودُهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا، وَعَنْ غَيْرِهِ: أَنَّهُ بُخْتُنَصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ لَهُ قِصَّةً عَجِيبَةً فِي كَيْفِيَّةِ تَرَقِّيهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، إِلَى أَنْ مَلَكَ الْبِلَادَ، وَأَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا مُقْعَدًا ضَعِيفًا يَسْتَعْطِي النَّاسَ وَيَسْتَطْعِمُهُمْ، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى مَا آلَ، وَأَنَّهُ سَارَ إِلَى بِلَادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَتَلَ بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذَا الْمَكَانِ حَدِيثًا أَسْنَدَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا مُطَوَّلًا (٣) وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ لَا مَحَالَةَ، لَا يَسْتَرِيبُ فِي ذَلِكَ مَنْ عِنْدَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِالْحَدِيثِ! وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ كَيْفَ رَاجَ عَلَيْهِ مَعَ إِمَامَتِهِ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ! وَقَدْ صَرَّحَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ مَكْذُوبٌ، وَكَتَبَ ذَلِكَ عَلَى حَاشِيَةِ الْكِتَابِ.

وَقَدْ وَرَدَتْ فِي هَذَا آثَارٌ كَثِيرَةٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ لَمْ أَرَ تَطْوِيلَ الْكِتَابِ بِذِكْرِهَا؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مَوْضُوعٌ، مِنْ وَضْعِ [بَعْضِ] (٤) زَنَادِقَتِهِمْ، وَمِنْهَا مَا قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، وَنَحْنُ فِي غُنْيَة عَنْهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَفِيمَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ غُنْيَةٌ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْكُتُبِ قَبْلَهُ، وَلَمْ يُحْوِجْنَا اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَمَّا بَغَوْا وَطَغَوْا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُّوَهُمْ، فَاسْتَبَاحَ بَيْضَتَهم، وَسَلَكَ خِلَالَ بُيُوتِهِمْ وَأَذَلَّهُمْ وَقَهَرَهُمْ، جَزَاءً وِفَاقًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ تَمَرَّدُوا وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ.


(١) في ف، أ: "ولتعلن".
(٢) في ف: "وسلطنة".
(٣) تفسير الطبري (١٥/١٧)
(٤) زيادة من ف، أ.

<<  <  ج: ص:  >  >>