للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (٣٠) } .

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِالِاقْتِصَادِ فِي الْعَيْشِ ذَامًّا لِلْبُخْلِ نَاهِيًا عَنِ السَّرَف: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} أَيْ: لَا تَكُنْ بَخِيلًا مَنُوعًا، لَا تُعْطِي أَحَدًا شَيْئًا، كَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [الْمَائِدَةِ: ٦٤] أَيْ نَسَبُوهُ إِلَى الْبُخْلِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ.

وَقَوْلُهُ: {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} أَيْ: وَلَا تُسْرِفْ فِي الْإِنْفَاقِ فَتُعْطِيَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، وَتُخْرِجَ أَكْثَرَ مِنْ دَخْلِكَ، فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا.

وَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ أَيْ: فَتَقْعُدَ إِنْ بَخِلْتَ مَلُومًا، يَلُومُكَ النَّاسُ وَيَذُمُّونَكَ وَيَسْتَغْنُونَ عَنْكَ كَمَا قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلمى فِي الْمُعَلَّقَةِ:

وَمَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَيَبْخَلْ بِمَالِهِ ... عَلَى قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمِ (١)

وَمَتَى بَسَطْتَ يَدَكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، قَعَدْتَ بِلَا شَيْءٍ تُنْفِقُهُ، فَتَكُونَ كَالْحَسِيرِ، وَهُوَ: الدَّابَّةُ الَّتِي قَدْ عَجَزَتْ عَنِ السَّيْرِ، فَوَقَفَتْ ضَعْفًا وَعَجْزًا (٢) فَإِنَّهَا تُسَمَّى الْحَسِيرَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكَلَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الْمُلْكِ: ٣، ٤] أَيْ: كَلِيلٌ عَنْ أَنْ يَرَى عَيْبًا. هَكَذَا فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ -بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْبُخْلُ وَالسَّرَفُ -ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ.

وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ، كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثَدْيَيْهِمَا (٣) إِلَى تَرَاقِيهِمَا. فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ إِلَّا سَبَغَت -أَوْ: وَفَرَتْ -عَلَى جِلْدِهِ، حَتَّى تُخفي بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ (٤) أَثَرَهُ. وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلَّا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا فَلَا (٥) تَتَّسِعُ".

هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي الزَّكَاةِ (٦) .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ جَدَّتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَفِقِي هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَلَا تُوعِي فَيُوعي اللَّهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوكِي فَيُوكِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ" وَفِي لَفْظٍ: "وَلَا تُحصي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ" (٧) .

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِي: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ" (٨) .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّد، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي


(١) البيت في ديوانه (ص٣٠) .
(٢) في ت، ف: "عجزا وضعفا".
(٣) في أ: "من يديهما".
(٤) في ت، ف: "يخفى بنانه ويعفو".
(٥) في ف: "ولا".
(٦) صحيح البخاري برقم (١٤٤٣) وليس في صحيح مسلم من طريق أبي الزناد، وإنما هو فيه من طريق الحسن بن مسلم وعبد الله بن طاوس، عن طاوس، عن أبي هريرة برقم (١٠٢١) .
(٧) صحيح البخاري برقم (١٤٣٣) وصحيح مسلم برقم (١٠٢٩)
(٨) صحيح مسلم برقم (٩٩٣) .

<<  <  ج: ص:  >  >>