للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَوْلُهُ: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} : وَذَلِكَ لِطِيبِ صَوْتِهِ بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِ الزَّبُورِ، وَكَانَ إِذَا تَرَنَّم بِهِ تَقِفُ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ، فَتُجَاوِبُهُ، وتَرد عَلَيْهِ الْجِبَالُ تَأْوِيبًا؛ وَلِهَذَا لمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ يَتْلُو الْقُرْآنَ مِنَ اللَّيْلِ، وَكَانَ لَهُ صَوْتٌ طَيِّبٌ [جَدًا] (١) . فَوَقَفَ وَاسْتَمَعَ لِقِرَاءَتِهِ، وَقَالَ: "لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مَزَامِيرَ آلِ دَاوُدَ". قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْمَعُ (٢) لِحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا (٣) .

وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: مَا سَمِعْتُ صَوْتَ صَنْج وَلَا بَرَبْطَ وَلَا مِزْمَارٍ مِثْلَ صَوْتِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَعَ هَذَا قَالَ: لَقَدْ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ.

وَقَوْلُهُ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِيُحْصِنَكُمْ (٤) مِنْ بَأْسِكُمْ} يَعْنِي صَنْعَةَ الدُّرُوعِ.

قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا كَانَتِ الدُّرُوعُ قَبْلَهُ صَفَائِحَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا حلَقًا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سَبَأٍ:١٠، ١١] أَيْ: لَا تُوَسِّعِ الْحَلْقَةَ فَتُقْلِقَ (٥) الْمِسْمَارَ، وَلَا تُغْلِظِ الْمِسْمَارَ فتَقَدّ الحَلْقة؛ وَلِهَذَا قال: {لِيُحْصِنَكُمْ (٦) مِنْ بَأْسِكُمْ} يَعْنِي: فِي الْقِتَالِ، {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} أَيْ: نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، لِمَا أَلْهَمَ بِهِ عَبْدَهُ دَاوُدَ، فَعَلَّمَهُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِكُمْ.

وَقَوْلُهُ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أَيْ: وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ الْعَاصِفَةَ، {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} يَعْنِي أَرْضَ الشَّامِ، {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ بِسَاطٌ مِنْ خَشَبٍ، يُوضَعُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْمَمْلَكَةِ، وَالْخَيْلِ وَالْجِمَالِ وَالْخِيَامِ وَالْجُنْدِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الرِّيحَ أَنْ تَحْمِلَهُ فَتَدْخُلَ تَحْتَهُ، ثُمَّ تَحْمِلَهُ فَتَرْفَعَهُ وَتَسِيرَ بِهِ، وَتُظِلُّهُ الطَّيْرُ مِنَ الْحَرِّ، إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ مِنَ الْأَرْضِ، فَيَنْزِلُ وَتُوضَعُ آلَاتُهُ وَخُشُبُهُ (٧) ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:٣٦] ، وَقَالَ {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سَبَأٍ:١٢] .

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ أَبِي سِنَان، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ يُوضَع لِسُلَيْمَانَ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ كُرْسِيٍّ، فَيَجْلِسُ مِمَّا يَلِيهِ مُؤْمِنُو الْإِنْسِ، ثُمَّ يَجْلِسُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُؤْمِنُو الْجِنِّ، ثُمَّ يَأْمُرُ الطَّيْرَ فَتُظِلُّهُمْ، ثُمَّ يَأْمُرُ الرِّيحَ فَتَحْمِلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٨) .

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْد بْنِ عُمَيْرٍ: كَانَ سُلَيْمَانُ يَأْمُرُ الرِّيحَ، فتجتَمع كالطَّود الْعَظِيمِ، كَالْجَبَلِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِفِرَاشِهِ فَيُوضَعُ عَلَى أَعْلَى مَكَانٍ مِنْهَا، ثُمَّ يَدْعُو بفَرَس مِنْ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ، فَتَرْتَفِعُ (٩) حَتَّى تَصْعَدَ (١٠) عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الرِّيحَ فَتَرْتَفِعُ بِهِ كُل شَرَف دُونَ السَّمَاءِ، وَهُوَ مُطَأْطِئٌ رَأْسَهُ، مَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا تَعْظِيمًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَشُكْرًا لِمَا يَعْلَمُ مِنْ صِغَرِ مَا هُوَ فِيهِ فِي ملك الله


(١) زيادة من ف، أ.
(٢) في ف: "تستمع".
(٣) سبق الحديث في فضائل القرآن.
(٤) في ف، أ: "لتحصنكم".
(٥) في ف: "فتفلق".
(٦) في ف، أ: "لتحصنكم".
(٧) في أ: "وحشمه"
(٨) في أ: "فتحملهم عليه السلام".
(٩) في ف، أ: "فيرتفع".
(١٠) في ف، أ: "يصعد".

<<  <  ج: ص:  >  >>