للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ سَجِيَّتَهَا لَا تَرُدّ يَدَ لَامَسٍ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا وَاقِعٌ مِنْهَا، وَأَنَّهَا تَفْعَلُ الْفَاحِشَةَ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْذَنُ فِي مُصَاحَبَةِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهَا. فَإِنَّ زَوْجَهَا -وَالْحَالَةُ هَذِهِ -يَكُونُ دَيّوثا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْوَعِيدُ عَلَى ذَلِكَ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ سَجِيَّتُهَا هَكَذَا لَيْسَ فِيهَا مُمَانَعَةٌ وَلَا مُخَالَفَةٌ لِمَنْ أَرَادَهَا لَوْ خلا بها أحد، أمره رسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِرَاقِهَا. فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُحِبُّهَا أَبَاحَ لَهُ الْبَقَاءَ مَعَهَا؛ لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ لَهَا مُحَقَّقَةٌ، وَوُقُوعَ الْفَاحِشَةِ مِنْهَا مُتَوَهَّمٌ (١) فَلَا يُصَار إِلَى الضَّرَرِ الْعَاجِلِ لِتَوَهُّمِ الْآجِلِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالُوا: فَأَمَّا إِذَا حَصَلَتْ تَوْبَةٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ التَّزْوِيجُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ:

حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأشَجّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ [شُعْبَةَ] (٢) -مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ (٣) :إِنِّي كُنْتُ أُلِمُّ بِامْرَأَةٍ آتِي مِنْهَا مَا حَرّم اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ، فَرَزَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ تَوْبَةً، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ أُنَاسٌ: إِنَّ الزَّانِيَ لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ هَذَا فِي هَذَا، انْكِحْهَا فَمَا كَانَ مِنْ إِثْمٍ فَعَلَيَّ.

وَقَدِ ادَّعَى طَائِفَةٌ آخَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:

حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ ابن الْمُسَيَّبِ. قَالَ: ذُكر عِنْدَهُ {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} قَالَ: كَانَ يُقَالُ: نَسَخَتْهَا [الْآيَةُ] (٤) الَّتِي بَعْدَهَا: {وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ} [النُّورِ: ٣٢] قَالَ: كَانَ يُقَالُ الْأَيَامَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ "النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ" لَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) }

هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا بَيَانُ حُكْمِ جَلْدِ الْقَاذِفِ لِلْمُحَصَنَةِ، وَهِيَ الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ الْعَفِيفَةُ، فَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ رَجُلًا فَكَذَلِكَ يُجْلَدُ قَاذِفُهُ أَيْضًا، لَيْسَ فِي هَذَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. فَأَمَّا إِنْ أَقَامَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ، رُدّ عَنْهُ الْحَدُّ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، فَأَوجَبَ عَلَى الْقَاذِفِ إِذَا لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً على


(١) في أ: "يتوهم".
(٢) زيادة من ف، أ.
(٣) في أ: "فقال".
(٤) زيادة من ف، أ.

<<  <  ج: ص:  >  >>