للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وهذا القول هو يتضمن هلاكها، وهو مناسب للأول (١)، وهو أنه تعالى لو شاء لسكن الريح فوقفت، أو لقواه فشردت وأبقت وهلكت. ولكن من لطفه (٢) ورحمته أنه يرسله بحسب الحاجة، كما يرسل المطر بقدر الكفاية، ولو أنزله كثيرا جدا لهدم البنيان، أو قليلا لما أنبت الزرع (٣) والثمار، حتى إنه يرسل إلى مثل بلاد مصر سيحا من أرض أخرى غيرها (٤)؛ لأنهم لا يحتاجون إلى مطر، ولو أنزل عليهم لهدم بنيانهم، وأسقط جدرانهم.

وقوله: (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي: لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا، فإنهم مقهورون بقدرتنا.

﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)

يقول تعالى محقرا بشأن الحياة الدنيا وزينتها، وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني، بقوله: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به، فإنما هو متاع الحياة الدنيا، وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة، (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) أي: وثواب الله خير من الدنيا، وهو باق سرمدي، فلا تقدموا الفاني على الباقي؛ ولهذا قال: (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي: للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا، (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي: ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات.

ثم قال: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ) وقد قدمنا الكلام على الإثم والفواحش في "سورة الأعراف" (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي: سجيتهم [وخلقهم وطبعهم] (٥) تقتضي الصفح والعفو عن الناس، ليس سجيتهم الانتقام من الناس.

وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله ما انتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله (٦) وفي حديث آخر: "كان يقول لأحدنا (٧) عند المعتبة: ما له؟ تربت جبينه" (٨).

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن زائدة، عن منصور (٩)، عن إبراهيم قال: كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا، وكانوا إذا قدروا عفوا.


(١) في ت، أ: "للقول الأول".
(٢) في أ: "لطف الله".
(٣) في ت، م: "الزروع".
(٤) في أ: "عليها".
(٥) زيادة من أ.
(٦) رواه البخاري في صحيحه برقم (٦١٢٦) من حديث عائشة بلفظ: "وما انتقم رسول الله لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم بها لله".
(٧) في أ: "للرجل".
(٨) رواه البخاري في صحيحه برقم (٦٠٣١) من حديث أنس بن مالك .
(٩) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".