للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

بقصة نزول جبريل [] (١) عليه أول مرة، فقال: بَخ بَخ، هذا الناموس الذي كان يأتي موسى، يا ليتني أكون فيها جَذَعًا.

(مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي: من الكتب المنزلة قبله على الأنبياء. وقولهم: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) أي: في الاعتقاد والإخبار، (وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) في الأعمال، فإن القرآن يشتمل على شيئين (٢) خبر وطلب (٣)، فخبره صدق، وطلبه عدل، كما قال: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا﴾ [الأنعام: ١١٥]، وقال ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ [التوبة: ٣٣]، فالهدى هو: العلم النافع، ودين الحق: هو العمل الصالح. وهكذا قالت الجن: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) في الاعتقادات، (وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أي: في العمليات.

(يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ) فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدًا صلوات الله وسلامه عليه (٤) إلى الثقلين الإنس والجن حيث دعاهم إلى الله، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين، وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم، وهي سورة الرحمن؛ ولهذا قال (٥) (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ)

وقوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) قيل: إن "من" هاهنا زائدة وفيه نظر؛ لأن زيادتها في الإثبات قليل، وقيل: إنها على بابها للتبغيض، (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) أي: ويقيكم من عذابه الأليم.

وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة؛ ولهذا قالوا هذا في هذا المقام، وهو مقام تبجح ومبالغة فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثت عن جرير، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: لا يدخل مؤمنو الجن الجنة؛ لأنهم من ذرية إبليس، ولا تدخل ذرية إبليس الجنة.

والحق أن مُؤمِنَهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة، كما هو مذهب جماعة (٦) من السلف، وقد استدل بعضهم لهذا بقوله: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ﴾ [الرحمن: ٧٤]، وفي هذا الاستدلال نظر، وأحسن منه قوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦، ٤٧]، فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، وقد قابلت الجِنّ هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس، فقالوا: "ولا بِشَيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد" فلم يكن تعالى ليمتنّ عليهم بجزاء لا يحصل لهم، وأيضا فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار -وهو مقام عدل-فَلأنْ يجازي مؤمنهم بالجنة -وهو مقام فَضْل-بطريق الأولى والأحرى. ومما يدل أيضا على ذلك عمومُ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا﴾ [الكهف: ١٠٧]، وما


(١) زيادة من أ.
(٢) في ت: "نوعين".
(٣) في أ: "خبرا وطلبا".
(٤) في ت: "".
(٥) في م: "قالوا".
(٦) في ت، أ: "طائفة".