للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقوله: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ) أي: انسل خفية في سرعة، (فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) أي: من خيار ماله. وفي الآية الأخرى: ﴿فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ [هود: ٦٩] أي: مشوي على الرَّضف، (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أي: أدناه منهم، (قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ): تلطف في العبارة وعرض حسن.

وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة؛ فإنه جاء بطعامه (١) من حيث لا يشعرون بسرعة، ولم يمتن عليهم أولا فقال: "نأتيكم بطعام؟ " بل جاء به بسرعة (٢) وخفاء، وأتى بأفضل ما وجد من ماله، وهو عجل فتي سمين مشوي، فقربه إليهم، لم يضعه، وقال: اقتربوا، بل وضعه بين أيديهم، ولم يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة الجزم، بل قال: (أَلا تَأْكُلُونَ) على سبيل العرض والتلطف، كما يقول القائل اليوم: إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق، فافعل (٣).

وقوله: (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً): هذا محال على ما تقدم في القصة في السورة الأخرى، وهو (٤) قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ﴾ [هود: ٧٠، ٧١] أي: استبشرت بهلاكهم؛ لتمردهم وعتوهم على الله، فعند ذلك بشرتها الملائكة (بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ). ﴿(قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)[هود ٧٢، ٧٣]؛ ولهذا قال هاهنا: (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)، فالبشارة له هي بشارة لها؛ لأن الولد منهما، فكل منهما بشر به.

وقوله: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) أي: في صرخة عظيمة (٥) ورنة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو صالح، والضحاك، وزيد بن أسلم والثوري والسدي وهي قولها: ﴿يَا وَيْلَتَى﴾ (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا) (٦) أي: ضربت بيدها على جبينها، قاله مجاهد وابن (٧) سابط.

وقال ابن عباس: لطمت، أي تعجبا كما تتعجب (٨) النساء من الأمر الغريب، (وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي: كيف ألد وأنا عجوز [عقيم] (٩)، وقد كنتُ في حال الصبا عقيما لا أحبل؟.

(قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (١٠) أي: عليم بما تستحقون من الكرامة، حكيم في أقواله وأفعاله.

﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (٣٧)


(١) في م: "بطعام".
(٢) في أ: "في سرعة".
(٣) وقد توسع الإمام ابن القيم في كتابه "جلاء الأفهام" (ص ١٨١ - ١٨٤) في الكلام على آداب الضيافة في هذه الآيات.
(٤) في م: "وهي".
(٥) في م، أ: "وعيطة".
(٦) في م: "وصكت".
(٧) في م: "وأبو".
(٨) في م: "يتعجب".
(٩) زيادة من أ.
(١٠) في م: "العليم الحكيم" وهو خطأ.