للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) } .

يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أَيْ: بَيَّنَّا لِلنَّاسِ فِيهِ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ، فَإِنَّ الْمَثَلَ يُقَرّب الْمَعْنَى إِلَى الْأَذْهَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الرُّومِ:٢٨] أَيْ: تَعْلَمُونَهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَقَالَ: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ:٤٣] .

وَقَوْلُهُ: {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أَيْ: هُوَ قُرْآنٌ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ وَلَا لَبْسَ، بَلْ هُوَ بَيَانٌ وَوُضُوحٌ وَبُرْهَانٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (١) كَذَلِكَ، وَأَنْزَلَهُ بِذَلِكَ {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أَيْ: يَحْذَرُونَ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا (٢) فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ (٣) .

ثُمَّ قَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} أَيْ: يَتَنَازَعُونَ فِي ذَلِكَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمْ، {وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ} أَيْ: خَالِصًا لِرَجُلٍ، لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا} أَيْ: لَا يَسْتَوِي هَذَا وَهَذَا. كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْمُشْرِكُ الَّذِي يَعْبُدُ آلِهَةً مَعَ اللَّهِ، وَالْمُؤْمِنُ الْمُخْلِصُ الَّذِي لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هَذِهِ الْآيَةُ ضَرَبَتْ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِ وَالْمُخْلِصِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا المثلُ ظَاهِرًا بَيِّنا جَلِيًّا، قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أَيْ: عَلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ: فَلِهَذَا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ.

وَقَوْلُهُ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بِهَا الصِّدِّيقُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٤) عِنْدَ مَوْتِ الرَّسُولِ (٥) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى تَحَقَّقَ النَّاسُ مَوْتَهُ، مَعَ قَوْلِهِ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ:١٤٤] .

وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: سَتُنْقَلُونَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ لَا مَحَالَةَ وَسَتَجْتَمِعُونَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَتَخْتَصِمُونَ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَيَفْتَحُ بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ، فَيُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ الْمُوَحِّدِينَ، وَيُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ.

ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ -وَإِنْ كَانَ سِيَاقُهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وذِكْر الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ-فَإِنَّهَا شَامِلَةٌ لِكُلِّ مُتَنَازِعَيْنِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ تُعَادُ عَلَيْهِمُ الْخُصُومَةُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.

قَالَ (٦) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ حَاطِبٍ -يَعْنِي يَحْيَى بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ-عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قَالَ الزُّبَيْرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُكَرَّرُ عَلَيْنَا الْخُصُومَةُ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ إذًا لَشَدِيدٌ.

وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سُفْيَانَ، وَعِنْدَهُ زِيَادَةٌ: وَلَمَّا نَزَلَتْ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}


(١) زيادة من أ.
(٢) في ت، أ: "لما".
(٣) في ت، أ: "الوعيد".
(٤) زيادة من ت.
(٥) في ت: "رسول الله".
(٦) في ت: "روى".

<<  <  ج: ص:  >  >>