للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَيْ: فِي كُفْرٍ وَعِنَادٍ وَمُشَاقَّةٍ لِلْحَقِّ، ومَسْلَك بَعِيدٍ مِنَ الْهُدَى.

ثُمَّ قَالَ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} أَيْ: سَنُظْهِرُ لَهُمْ دَلَالَاتِنَا وحُجَجنا عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَائِلَ خَارِجِيَّةٍ {فِي الآفَاقِ} ، مِنَ الْفُتُوحَاتِ وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْأَقَالِيمِ وَسَائِرِ الْأَدْيَانِ.

قَالَ (١) مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: وَدَلَائِلُ فِي أَنْفُسِهِمْ، قَالُوا: وَقْعَةُ بَدْر، وَفَتْحُ مَكَّةَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي حَلّت بِهِمْ، نَصَرَ اللَّهُ فِيهَا مُحَمَّدًا وَصَحْبَهُ، وَخَذَلَ فِيهَا الْبَاطِلَ وحِزْبَه.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ مَا الْإِنْسَانُ مُرَكَّبٌ مِنْهُ وَفِيهِ وَعَلَيْهِ مِنَ الْمَوَادِّ وَالْأَخْلَاطِ وَالْهَيْئَاتِ الْعَجِيبَةِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي عِلْمِ التَّشْرِيحِ الدَّالِّ عَلَى حِكْمَةِ الصَّانِعِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَكَذَلِكَ مَا هُوَ مَجْبُولٌ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمُتَبَايِنَةِ، مِنْ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَمَا هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ تَحْتَ الْأَقْدَارِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ بِحَوْلِهِ، وَقُوَّتِهِ، وحِيَله، وَحَذَرِهِ أَنْ يَجُوزَهَا، وَلَا يَتَعَدَّاهَا، كَمَا أَنْشَدَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِهِ "التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ"، عَنْ شَيْخِهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْقُرَشِيِّ:

وَإذَا نَظَرْتَ تُريدُ مُعْتَبَرا ... فَانظُرْ إليْكَ فَفِيكَ مُعْتَبَرُ ...

أنتَ الَّذِي يُمْسِي وَيُصْبحُ فِي ... الدُّنْيَا وكُلّ أمُوره عبَرُ ...

أنتَ المصرّفُ كانَ فِي صِغَرٍ ... ثُمّ استَقَلَّ بِشَخْصِكَ الكِبَرُ ...

أنتَ الَّذِي تَنْعَاه خلْقَتُه ... يَنْعاه مِنْهُ الشَّعْرُ والبَشَرُ ...

أنتَ الَّذِي تُعْطَى وَتُسْلَب لَا ... يُنْجيه مِنْ أنْ يُسْلَبَ الحَذَرُ ...

أنْتَ الَّذِي لَا شَيءَ منْه لَهُ ... وَأحَقُّ منْه بِمَاله القَدَرُ ...

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ؟ أَيْ: كَفَى بِاللَّهِ (٢) شَهِيدًا عَلَى أَفْعَالِ عِبَادِهِ وَأَقْوَالِهِمْ، وَهُوَ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النِّسَاءِ: ١٦٦] .

وَقَوْلُهُ: {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} أَيْ: فِي شَكٍّ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهِ، وَلَا يَعْمَلُونَ لَهُ، وَلَا يَحْذَرُونَ مِنْهُ، بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ هَدَرٌ لَا يَعْبَئُونَ بِهِ وَهُوَ وَاقِعٌ لَا رَيْبَ فِيهِ وَكَائِنٌ لَا مَحَالَةَ.

قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ صَعد الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي لَمْ أَجْمَعْكُمْ لِأَمْرٍ أُحْدِثُهُ فِيكُمْ، وَلَكِنْ فَكَّرْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي أَنْتُمْ إِلَيْهِ صَائِرُونَ، فَعَلِمْتُ أَنَّ الْمُصَدِّقَ بِهَذَا الْأَمْرِ أَحْمَقُ، وَالْمُكَذِّبَ بِهِ هالك ثم نزل.


(١) في ت، أ: "قاله".
(٢) في ت: "به".

<<  <  ج: ص:  >  >>