للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

قال: كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون. وكذا قال قتادة، وابن جرير.

وقد ثبت في الحديث المتواتر: أن رسول الله لما عمل له المنبر، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد، فلما وضع المنبر أول ما وضع، وجاء النبي ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر، فعند ذلك حَنّ الجذع وجعل (١) يئن كما يئن الصبي الذي يُسَكَّن (٢)، لما كان يُسمَع من الذكر والوحي عنده. ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده: "فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله من الجذع" (٣). وهكذا هذه الآية الكريمة، إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته، لخشعت وتصدعت من خشيته (٤) فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾ الآية [الرعد: ٣١]. وقد تقدم أن معنى ذلك: أي لكان هذا القرآن. وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٤].

ثم قال تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) أخبر تعالى أنه الذي لا إله إلا هو فلا رب غيره، ولا إله للوجود سواه، وكل ما يعبد من دونه فباطل، وأنه عالم الغيب (٥) والشهادة، أي: يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا فلا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير، حتى الذر في الظلمات.

وقوله: (هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) قد تقدم الكلام على ذلك في أول التفسير، بما أغنى عن إعادته هاهنا. والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وقد قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٥٦]، وقال ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ٥٤]، وقال ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨].

وقوله (٦) (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ) أي: المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة.

وقوله: (الْقُدُّوسُ) قال وهب بن منبه: أي الطاهر. وقال مجاهد، وقتادة: أي المبارك: وقال ابن جريج: تقدسه الملائكة الكرام.


(١) حديث حنين الجذع رواه البخاري في صحيحه برقم (٣٥٨٣) من حديث ابن عمر، وبرقم (٣٥٨٤، ٣٥٨٥) من حديث جابر، .
(٢) في م: "يسكت".
(٣) رواه أبو القاسم البغوي كما في البداية والنهاية للمؤلف (٦/ ١٣٢) من طريق شيبان بن فروخ، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس في قصة الجذع، ثم زاد: فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكي ثم قال: "يا عباد الله الخشبة تحن إلي رسول الله شوقًا إليه لمكانه من الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلي لقائه".
(٤) في م: "من خشية الله".
(٥) في م: "بالغيب".
(٦) في م: "ثم قال".