وقوله:(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ) أي: ليس له اليوم من ينقذه من عذاب الله، لا حميم -وهو القريب-ولا شفيع يطاع، ولا طعام له هاهنا إلا من غسلين.
قال قتادة: هو شر طعام أهل النار. وقال الربيع، والضحاك: هو شجرة في جهنم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا منصور بن مزاحم، حدثنا أبو سعيد المؤدب، عن خُصَيف، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: ما أدري ما الغسلين، ولكني أظنه الزقوم.
وقال شَبِيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الغسلين: الدم والماء يسيل من لحومهم. وقال علي بن أبي طلحة عنه: الغسلين: صديد أهل النار.
يقول تعالى مُقسمًا لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم: إن القرآن كلامُه ووحيه وتنزيلُه على عبده ورسوله، الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فقال:(فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعني: محمدًا، أضافه إليه على معنى التبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل؛ ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ وهذا جبريل، ﵇.
ثم قال: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ يعني: محمدًا ﷺ ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ يعني: أن محمدا رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ أي: بمتهم ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ [التكوير: ١٩ - ٢٥]، وهكذا قال هاهنا:(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ)، فأضافه تارة إلى قول الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري؛ لأن كلا منهما مبلغ عن الله ما استأمنه عليه من وحيه وكلامه؛ ولهذا قال:(تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
قال الإمام أحمد: حدثنا ابن المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا شُرَيح بن عبيد الله قال: قال عمر بن الخطاب: خرجت أتعرض رسول الله ﷺ قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قال: فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش. قال: فقرأ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ) قال: فقلت: كاهن. قال فقرأ:(وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)