للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (١٣) } .

يَقُولُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْمُكَذِّبِينَ لِرَسُولِهِ {فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أَيْ: عَاقَبَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، أَيْ: وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}

ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ صخرُ بْنُ حَرْبٍ رَئِيسُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ سَأَلَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلَمْ يُجَبْ، وَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ هَلَكُوا، وَأَجَابَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، بَلْ أَبْقَى اللَّهُ لَكَ مَا يَسُوؤُكَ، وَإِنَّ الَّذِينَ عَدَدت لَأَحْيَاءٌ [كُلُّهُمْ] (١) . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجال، أَمَا إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي، ثُمَّ ذَهَبَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: اعْلُ هُبَل، اعْلُ هُبَلْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا تُجِيبُوهُ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا نَقُولُ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ" ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى، وَلَا عُزّى لَكُمْ. فَقَالَ: "أَلَا تُجِيبُوهُ؟ " قَالُوا: وَمَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ" (٢) .

ثُمَّ قَالَ [تَعَالَى (٣) {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ} أَيْ: فِي دُنْيَاهُمْ، يَتَمَتَّعُونَ بِهَا وَيَأْكُلُونَ مِنْهَا كَأَكْلِ الْأَنْعَامِ، خَضْما وَقَضْمًا وَلَيْسَ لَهُمْ هِمَّةٌ إِلَّا فِي ذَلِكَ. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعيّ وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ" (٤) .

ثُمَّ قَالَ: {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} أَيْ: يَوْمَ جَزَائِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} يَعْنِي: مَكَّةَ، {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ، فِي تَكْذِيبِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ (٥) وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ أَهْلَكَ الْأُمَمَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ قَبْلَهُ بِسَبَبِهِمْ، وَقَدْ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ هَؤُلَاءِ، فَمَاذَا ظَنَّ هَؤُلَاءِ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى؟ فَإِنْ رَفَعَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا لِبَرَكَةِ وُجُودِ الرَّسُولِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، فَإِنَّ الْعَذَابَ يوفر على


(١) زيادة من أ.
(٢) رواه البخاري في صحيحه برقم (٤٠٤٣) من حديث البراء رضي الله عنه.
(٣) زيادة من أ.
(٤) رواه البخاري في صحيحه برقم (٥٣٩٣) ومسلم في صحيحه برقم (٢٠٦٠) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(٥) في ت: "الرسل".

<<  <  ج: ص:  >  >>