للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ثم قال: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) أي: تارة هكذا، وتارة هكذا، وذلك كله من غير قصد منكم، ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل؛ لأنه يشق عليكم؛ ولهذا قال: (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) أي: تارة يعتدلان، وتارة يأخذ هذا من هذا، أو هذا من هذا، (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي: الفرض الذي أوجبه عليكم (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي: من غير تحديد بوقت، أي: ولكن قوموا من الليل ما تيسر. وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة سبحان: ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ﴾ أي: بقراءتك، ﴿وَلا تُخَافِتْ بِهَا﴾

وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة، ، بهذه الآية، وهي قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) على أنه لا يتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن، ولو بآية، أجزأه؛ واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن".

وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت، وهو في الصحيحين أيضا: أن رسول الله قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (١) وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خِدَاج، فهي خِدَاج، فهي خِدَاج، غير تمام". (٢) وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بأم القرآن". (٣)

وقوله: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي: علم أن سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار في ترك قيام الليل، من مرضى لا يستطيعون ذلك، ومسافرين (٤) في الأرض يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر، وآخرين مشغولين (٥) بما هو الأهم في حقهم من الغزو في سبيل الله وهذه الآية -بل السورة كلها-مكية، ولم يكن القتال شُرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوة، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة. ولهذا قال: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) (٦) أي: قوموا بما تيسر عليكم منه.

قال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رجاء محمد، قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه، ولا يقوم به، إنما يصلي المكتوبة؟ قال: يتوسَّدُ القرآن، لعن الله ذاك، قال الله تعالى للعبد الصالح: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ [يوسف: ٦٨]


(١) صحيح البخاري برقم (٧٥٦)، وصحيح مسلم برقم (٣٤٩).
(٢) صحيح مسلم برقم (٣٩٥).
(٣) صحيح ابن خزيمة برقم (٤٩٠).
(٤) في أ: "ومسافرون".
(٥) في أ: "وآخرون مشغلون".
(٦) في م: "من القرآن".