للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا. وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ (١) .

وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاسِخَ لَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ نُزُولُهُ وَإِبْلَاغُهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِإِعَادَةِ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا حَصَلَ لِبَعْضِ النَّاسِ -مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ وَالْكَفَرَةِ مِنَ الْيَهُودِ -ارْتِيَابٌ وَزَيْغٌ عَنِ الْهُدَى وَتَخْبِيطٌ وَشَكٌّ، وَقَالُوا: {مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} أَيْ: مَا لِهَؤُلَاءِ تَارَةً يَسْتَقْبِلُونَ كَذَا، وَتَارَةً يَسْتَقْبِلُونَ كَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَوَابَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أَيِ: الْحُكْمُ وَالتَّصَرُّفُ وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَحَيْثُمَا تُوَلُّوا فثمَّ وَجْهُ اللَّهِ، وَ {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: ١٧٧] أَيِ: الشَّأْنُ كُلُّهُ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ، فَحَيْثُمَا وَجَّهْنَا تَوَجَّهْنَا، فَالطَّاعَةُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَلَوْ وَجَّهَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ إِلَى جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَنَحْنُ عَبِيدُهُ وَفِي تَصْرِيفِهِ وخُدَّامُه، حَيْثُمَا وجَّهَنا تَوَجَّهْنَا، وَهُوَ تَعَالَى لَهُ بِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (٢) -وأمتِه عِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ؛ إِذْ هَدَاهُمْ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ، خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، وَجَعَلَ تَوَجُّهَهُمْ إِلَى الْكَعْبَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى اسْمِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَشْرَفَ بُيُوتِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، إِذْ هِيَ بِنَاءُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِهَذَا قَالَ: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُمَر (٣) بْنِ قَيْسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يَعْنِي فِي أَهْلِ الْكِتَابِ -:"إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى يَوْمِ الْجُمْعَةِ، التِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ: آمِينَ" (٤) .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّمَا حَوّلناكم إِلَى قِبْلَةِ (٥) إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاخْتَرْنَاهَا لَكُمْ (٦) لَنَجْعَلَكُمْ خِيَارَ الْأُمَمِ، لِتَكُونُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهَداء عَلَى الْأُمَمِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ (٧) مُعْتَرِفُونَ (٨) لَكُمْ بِالْفَضْلِ. وَالْوَسَطُ هَاهُنَا: الْخِيَارُ وَالْأَجْوَدُ، كَمَا يُقَالُ: قُرَيْشٌ أوسطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا، أَيْ: خَيْرُهَا. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطًا فِي قَوْمِهِ، أَيْ: أَشْرَفُهُمْ نَسَبًا، وَمِنْهُ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، التِي هِيَ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ، وَهِيَ الْعَصْرُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا، وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا خَصَّها بِأَكْمَلِ الشَّرَائِعِ وَأَقْوَمِ الْمَنَاهِجِ وَأَوْضَحِ (٩) الْمَذَاهِبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: ٧٨]


(١) صحيح البخاري برقم (٤٠٣) وصحيح مسلم برقم (٥٢٦) .
(٢) في ط: "صلى الله عليه وسلم".
(٣) في ط، أ، و: "عن عمرو".
(٤) المسند (٦/١٣٤) .
(٥) في ط: "ملة".
(٦) في أ: "واحترفناها لكم"، وفي و: "واخترناكم لها".
(٧) في أ: "الأمم".
(٨) في ط: "معترفين" وهو خطأ..
(٩) في جـ: "وأصح".

<<  <  ج: ص:  >  >>