للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولكن لم يعبأ محمد -صلى الله عليه وسلم- بكل ما قدموه من مغريات ومرغبات، بل لقد وضعها جميعًا تحت قدميه وآثر المضي في طريقه ما فيه من متاعب وآلام. ويروون في ذلك أن عتبة بن ربيعة جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم. فاسمع مني أعرض عليك أمورًا لعلك تقبل بعضها، إن كنت تريد بهذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تصير أكثرنا مالًا.. وإذا كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ.

فلما فرغ من قوله تلا عليه محمد -صلى الله عليه وسلم- سورة السجدة، وأنصت عتبة إلى هذا الكلام المعجز والأسلوب الفريد، ثم تأمل في شخص محمد -صلى الله عليه وسلم- فرأى أمامه رجلًا مكتمل العقل ناضج الفكر لا مطمع له في مال ولا في تشريف ولا في ملك، وإنما يدلي بالحق ويدعو إلى الخير ويدفع بالتي هي أحسن، فانصرف عتبة إلى قريش مأخوذًا بجمال ما رأى وما سمع، مفتوحًا بعظمة هذا الرجل وسحر بيانه، فلما أفضى إليهم بما انطبع في نفسه نحو محمد من إعجاب وتقدير، غضبوا عليه وسخروا منه وقالوا له: سحرك محمد يا أبا الوليد١.

وكما لجأوا إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- يستميلوه ويغرونه، فقد لجأوا إلى عمه أبي طالب يوغرون صدره على ابن أخيه حتى يتخلى عن نصرته - وذلك أن رجالًا من أشراف قريش وفي مقدمتهم أبو سفيان بن حرب مشوا إلى أبي طالب فقالوا: يا


١ أخرجه أبو نعيم في "دلائل النبوة" رقم ١٨٢، ١٨٥ عن جابر وابن عمر، وهو عند ابن أبي شيبة في "المصنف" ١٨٤٠٩، عن جابر، وكذلك هو عند البيهقي وابن إسحاق ١/ ٢١٧ عن محمد بن كعب القرظي، فالقصة قوية باجتماع هذه الوجوه.
وانظر "مجمع الزوائد" ٦/ ٢٠ وقد عزاه لأبي يعلى، و"الخصائص" ١/ ٢٨٤.

<<  <   >  >>