فانتصر الحق بفضل الله وعلا لواؤه، ولاذ الباطل بالفرار وقد أفل نجمه وطاش سهمه.
وأخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينظم صفوف المقاتلين من المسلمين، ثم أعلن بدء المعركة بهذه الكلمة القوية المؤمنة:"والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة". ولا ريب أن الكلمة المؤمنة إذا صادفت القلوب المؤمنة كانت كالغيث الهتون يصيب الأرض النقية الطيبة فينبت فيها الخير الكثير ... فلم يكد المسلمون المؤمنون يسمعون هذه الكلمة من نبيهم -صلى الله عليه وسلم- حتى نسوا الدنيا بما فيها من سعادة ونعيم، حتى إن أحدهم -وهو عمير بن الحمام- كان يأكل بعض تمرات فألقاها، لأنه آثر عليها تمر الجنة، وكأنما يراه بعينيه ويلمسه بيديه، وينطلق مسرعًا للقتال لكي يحظى بنعمة الاستشهاد في سبيل الله وهو ينشد بقلبه ولسانه:
ركضًا إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد ... وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد١
وظل يقاتلهم ويقتل منهم ما شاء الله أن يقتل حتى قُتل في سبيل الله، فشفى الله صدره بالجهاد وحقق له نعمة الاستشهاد، وهكذا:
تردَّى ثياب الموت حمرًا فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر
ولقد تجلى في هذا اليوم وفي هذه المعركة عدل الله وقصاصه من الظالمين،
١ أسند ذلك ابن جرير وغيره كما في "البداية" ٣/ ٢٧٧.