للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك البوصيري في قصيدته المشهورة، فقال:

أبان مولده عن طيب عنصره ... يا طيب مبتدإ منه ومختتم

يوم تفرس فيه الفرس أنهم ... قد أنذروا بحلول البؤس والنقم

وبات إيوان كسرى وهو منصدع ... كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم

والنار خامدة الأنفاس من أسف ... عليه والنهر ساهي العين من سدم

وساء "ساوه" أن غاضت بحيرتها ... ورد واردها بالغيظ حين ظمي

ويقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه فقه السيرة: إن هذا الكلام تعبير غلط عن فكرة صحيحة، فإن ميلاد محمد -صلى الله عليه وسلم- كان حقًّا إيذانًا بزوال الظلم واندثار عهده واندكاك معالمه.

وقد كانت رسالة محمد بن عبد الله أخطر ثورة عرفها العالم للتحرر العقلي والمادي١، وكان جند القرآن أعدل رجال وعاهم التاريخ وأحصى فعالهم في تدويخ المستبدين وكسر شوكتهم طاغية إثر طاغية، فلما أحب الناس -بعد انطلاقهم من قيود العسف- تصوير هذه الحقيقة، تخيلوا هذه الإرهاصات وأحدثوا لها الروايات الواهية٢، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- غني عن هذا كله، فإن نصيبه


١ المرتبط بمفاهيم النصوص، وحكم التشريع الإلهي ومقاصده.
٢ الجزم بكون هذه الروايات محدثة، يفتقر إلى دليل، وهو جود كذاب في السند معروف، ثم بوجود نكارات أخرى في السند أو المتن -ليس هنا موضع ذكرها- والسند ليس فيه شيء من ذلك، بل قصارى ما فيه أن فيه مجاهيل لا يعرفون، فضعف بسبب ذلك.
ولذلك أورده لهانئ جماعة في الصحابة، ولم يعترض معترض من الأئمة كابن حجر وابن الأثير، وابن كثير وغيرهم كثير على أن في السند وضاعًا أو كذابًا، ولا أنكر منهم الحديث برمته، بل كان جل اعتراضهم أنه ليس في الحديث ما يدل على صحبة هانئ.
والقاعدة الاصطلاحية، أن الحديث الضعيف لا يقطع ببطلانه لمجرد عدم ثبوت سنده، لا سيما إذا كان ليس من النصوص الشرعية فالإجماع منعقد على ذلك فالحق أن هذه الروايات لا تصدق ولا تكذب، حتى يقوم دليل على أحد الأمرين.
وقد ثبت في السنة خوارق أقوى مما في هذا الخبر، وأشياء دون ذلك، ولا نقول: محمد -صلى الله عليه وسلم- غني هذا، أو غير غني. وإن كنا لا نشك أنه غني مثل تكليم الحيوان وحنين الجذع وغير ذلك مما ثبت في الأحاديث الصحيحة. فالاستغناء شيء، وحصول الأمر شيء آخر.

<<  <   >  >>