قال صاحب الظلال يرحمه الله: [ثم تجيء الحلقة الثانية من قصة إبراهيم ... لقد انتهى أمره مع أبيه وقومه. لقد أرادوا به الهلاك في النار التي أسموها الجحيم، وأراد الله أن يكونوا هم الأخسرين؛ ونجاه من كيدهم أجمعين.
عندئذ استدبر إبراهيم مرحلة من حياته ليستقبل مرحلة؛ وطوى صفحة لينشر صفحة:
هكذا .. إني ذاهب إلى ربي .. إنها الهجرة. وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية. هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته. يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض، وبهؤلاء الناس. ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل. ويهاجر إلى ربه متخففاً من كل شيء، طارحاً وراءه كل شيء، مسلماً نفسه لربه لا يستبقي منها شيئاً.
موقنٌ أنَّ ربه سيهديه، وسيرعى خطاه، وينقلها في الطريق المستقيم. إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء. إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين.
وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيداً لا عقب له؛ وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى، والصحبة والمعرفة، وكل مألوف له في ماضي حياته، وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها، والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم! فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه. اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح:
} رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ {.
واستجاب الله دعاء عبده الصالح المتجرد، الذي ترك وراؤه كل شيء، وجاء إليه بقلب