للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذكرها الحياط آنفًا. ولكن تعمقهم وتوسعهم في بحثها والتنقيب عن شرح معانيها، فتفرع عن بحثهم وتنقيبهم هذا مسائل فرعية عدة منبثقة عن تلك الأصول الخمسة وعن غيرها أيضًا، وكان ذلك لأسباب عدة لعل من أبرزها.

أ- أنهم يتقيدوا بنصوص وحيي التنزيل "الكتاب والسنة"، واعتمدوا على العقل وبالغوا في ذلك حتى قدموه على النقل، مما كان له أعظم وأبلغ الأثر في وقوع الخلاف والاحتدام فيما بينهم البعض.

ب- أنهم انفتحوا على مطالعة ومدارسة كتب الفلسفة اليونانية، فقد استمدوا أفكارها منها ومزجوها وخلطوها بالعقيدة الإسلام الصحيحة المنبثقة من الوحي المنزل، فتشعبت بهم الأهواء بسبب سوء المصدر الفلسفي اليوناني وعدم لزومهم وتقيدهم بنصوص الكتاب والسنة، فنتج عن ذلك اختلاف في الآراء، وزاد بينهم الجدل العقيم، واشتد بينهم الحوار والتنازع والانقسام إلى فرق شتى أوصلها بعضهم إلى نيف وعشرين فرقة، وأصبح لكل فرقة منها رؤساؤها وآراؤها وأفكارها الخاصة بها.

وهذا أمر لا غرابة فيه، فالسنة تجمع والبدعة تفرق، فأهل الحق سُمُوا بـ "أهل السنة والجماعة" بسبب لزومهم السنة واجتماعهم عليها، وأهل الباطل سُمُوا بـ " أهل البدعة والاختلاف" بسبب تفرقهم وتنازعهم.

نسأل الله تعالى الثبات على الإسلام والسنة والجماعة حتى نلقاه سبحانه، وحتى نرد حوض المعصوم صلى الله عليه وسلم ونشرب منه شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدًا يوم يقول لأهل البدع سحقًا سحقًا، فقد ثبت في الصحيحين من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الساعدي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا، سُحْقًا، لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي". (١).

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: (ت: ٧٩٠ هـ)

"ولقوله: (قد بدلوا بعدك)، ولو كان الكفر: لقال: " قد كفروا بعدك"

، وأقرب ما يحمل عليه: تبديل السنة، وهو واقع على أهل البدع

ومن قال: إنه النفاق: فذلك غير خارج عن مقصودنا؛ لأن أهل النفاق إنما أخذوا الشريعة تقيةً، لا تعبدًا، فوضعوها غير مواضعها، وهو عين الابتداع

ويجري هذا المجرى كل من اتخذ السنَّة والعمل بها حيلةً وذريعةً إلى نيل حطام الدنيا، لا على التعبد بها لله تعالى؛ لأنه تبديل لها، وإخراج لها عن وضعها الشرعي". (٢)

قال النووي رحمه الله معلقًا على الحديث: (ت: ٦٧٦ هـ)

"هذا مما اختلف العلماء في المراد به على أقوال: ..... والثالث: أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم


(١) - رواه البخاري: (٦٢١٢)، ومسلم: (٢٢٩٠).
(٢) - الاعتصام: (١/ ٩٦).

<<  <   >  >>