للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهمته تنهار، وذلك كان شأن القوم مع القرآن، فلم يكن تركهم للمعارضة لأمر خارجي، وانما لإحساسهم باليأس، وتيقنهم من العجز عن الاتيان بمثل القرآن

يقول القاضي عبد الجبار:

" واعلم أن الخلاف في هذا الباب أنا نقول: إن دواعيهم انصرفت عن المعارضة لعلمهم أنها غير ممكنة، ولولا علمهم بذلك لم تكن لتنصرف دواعيهم، لأنا نجعل انصراف دواعيهم تابعًا لمعرفتهم بأنها متعذرة، وهم يقولون: ان دواعيهم انصرفت مع التأتي، ولأجل انصراف دواعيهم، لم يأتوا بالمعارضة مع كونها ممكنة، فهذا موضع الخلاف .. " (١).

ثم ينهي - القاضي عبد الجبار - حديثه عن مفهومه للصَّرْفة فيقول: -

" فالصحيح ما قلناه، من أنهم علموا بالعادات تعذر مثله، فصار علمهم صرفًا عن المعارضة .. " (٢).

فالصَّرْفة بهذا المفهوم الجديد عند القاضي عبد الجبار، ليست تلك الصَّرْفة التي عند - النظّام - أو - الجاحظ -، والتي تعني: القهر والجبر، وإنما هي صَّرْفة ذاتية، فهم أدركوا بالفطرة أن أسلوب القرآن في علوه وسموه، وروعة نظمه وبيانه، لا يمكن مجاراته ومعارضته، فانصرفوا ذاتيًا بلا قهر أو جبر من قوة خارجية عن المعارضة، اقتناعًا منهم ويقينًا بالعجز، فالأمر في الحقيقة: انصراف .. وليس صرفة .. (٣).

وبذلك يكون القاضي عبد الجبار أقل القوم وأضعفهم تعسفًا في قضية القول بالصَّرْفة.

المطلب الثالث: القائلون بالصرفة من غير المعتزلة، من الأشاعرة وغيرهم.

أولًا: الأشاعرة:

أما الأشاعرة: فَجُلّهم إنّما يقبل بنظرية الصَّرْفة إماّ كوجه ثانوي من أوجه الإعجاز فهو عندهم تابع للوجه الأوّل، والأهمّ وهو إعجاز القرآن بنظمه وذاته، وإمّا يقولون بها من باب المجادلة والمنافحة عن الحق لا غير.

ثانيًا: ما ينسب إلى أبي الحسن الأشعري (ت: ٣٢٤ هـ)

يقول الشهرستاني: محمد بن عبد الكريم (ت: ٥٤٨ هـ) أثناء حديثه عن أبي الحسن الأشعري: -

"والقرآن عنده معجز من حيث البلاغة، والنظم، والفصاحة، إذ خير العرب بين السيف وبين المعارضة، فاختاروا أشد القسمين اختيار عجز عن المقابلة، ومن أصحابه من اعتقد أن الإعجاز في القرآن من جهة صرف الدواعي، وهو المنع من المعتاد". (٤)

ثالثًا: ما يُنسب للقاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت: ٥٤٤ هـ)

قال محمد بن أحمد السفاريني: (ت: ١١٨٩ هـ): -

"وفي شفاء أبي الفضل القاضي عياض بعض ميل للقول بالصرفة، فإنه قال: وذهب الشيخ أبو الحسن (الأشعري) إلى أنه مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر، ويقدرهم الله عليه، ولكنه لم يكن هذا، ولا يكون، فمنعهم الله هذا، وعجزهم عنه ". (٥). ولاشك في وضوح قول القاضي عياض


(١) - المرجع السابق نفسه، ونفس الجزء والصفحة.
(٢) المرجع السابق ج ١٦/ ص ٣٢٥.
(٣) - إعجاز القرآن الكريم (مرجع سابق) بقلم: سامي عطا الجيتاوي-عن موقع دنيا الوطن، بتاريخ: ١٥/ ٦/ ٢٠٠٦ م. بتصرف يسير.
(٤) - الشهرستاني: الملل والنحل، بهامش الفصل: (: ١٣٥ ـ ١٣٦) وجل هذه الأقوال نقلًا من بحث الصَّرْفة للدكتور/ سامي عطا حسن. بتصرف
(٥) - محمد بن أحمد السفاريني: لوامع الأنوار البهية: (١/ ١٧٥).

<<  <   >  >>