للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الباب، على أن ذلك لو صح لم يقدح في صحة نبوته، لأنه كان يكون بمنزلة أن يقول صلى الله عليه وسلم: " دلالة نبوتي أني أريد المشي في جهة فيتأتى لي على العادة وتريدون المشي فيتعذر عليكم.

فإذا وجد الأمر كذلك دل على نبوته، لكون هذا المنع على هذا الوجه ناقضًا للعادة".

سادسًا - على أنهم لو صُرفوا، كما زعم القائلون، فإن من كان قبلهم من أهل الجاهلية لم يخاطبوا بالتحدي ولم يصرفوا عما يعدل القرآن فصاحة وبلاغة وحسن نظم وروائع وصف، فهلا جاءونا بشيء من أقوالهم يساويه في ذلك؟ فإذا عجزوا عن استخراج ذلك لعدم وجوده أصلًا، فقد انكشف أن قولهم بالصَّرْفَةِ فاضح البطلان. (١)

سابعًا - ومن أهم الأدلة على بطلان القول بالصَّرْفَةِ أن أهل الصنعة البلاغية إذا سمعوا كلامًا يطمعون في مجاراته لم يخف عليهم ولم يشتبه لديهم، فلا بد أن يحاولوا مباراته! كيف وقد تضافرت عليهم دوافع عديدة من سب آلهتهم وتسفيه عقول آبائهم ومطالبتهم بالإتباع مما يذهب بزعامتهم ومصالحهم .. !؟

وكيف يلزمون الصمت مع القدرة على المباراة؟ وقد تحداهم عشرين سنة بشيء من صناعتهم التي فاقوا بها وافتخروا، مع تقريعهم بالعجز مرارًا وتكرارًا، وهم مضرب المثل في الحمية والأنفة وإباء الضيم.

لو أنهم أحسوا بالحيلولة والحجز لدرأوا عن أنفسهم وصمة العجز، فإنه ليس معتادًا في بني الإنسان قاطبة - فضلًا عمن ذكرنا أوصافهم من العرب - أن يذعن الواحد لخصمه فيستكين له ويلقي بيديه ويسكت عن التقريع بالعجز أمدًا بعيدًا. فلما لم يؤثر عنهم مثل ذلك التشكي والتضجر دل ذلك على أنه لا أصل لما انصرف إليه أصحاب الصرفة واهمين.

قال الجرجاني (٢) رحمه الله تعالى:

" ومما يلزمهم على أصل المقالة أنه كان ينبغي له إن كانت العرب منعت منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها؛ أن يعرفوا ذلك من أنفسهم كما قدمت. ولو عرفوه لكان يكون قد جاء عنهم ذكر ذلك من أنفسهم كما قدمت. ولو عرفوه لكان يكون قد جاء عنهم ذكر ذلك. ولكانوا قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نستطيع قبل هذا الذي جئتنا به. ولكنك قد سحرتنا واحتلت في شيء حال بيننا وبينه. فقد نسبوه إلى السحر في كثير من الأمور كما لا يخفي. وكان أقل ما يجب في ذلك أن يتذاكروه فيما بينهم. ويشكوه البعض إلى البعض ويقولوا مالنا قد نقصنا من قرائحنا وقد حدث كلول في أذهاننا .. فبقي أن لم يُرْوَ ولم يذكر أنه كان منهم قول في هذا المعنى لا ما قلَّ ولا ما كثر، دليل أنه قول فاسد ورأي ليس من آراء ذوي التحصيل". (٣)

فهذا كله يجعل القول بالصَّرْفة باطلًا داحضًا يستوجب الانصراف


(١) - حكى القرطبي أن بعض أصحاب الصرفة زعموا أن العرب صرفوا عن القدرة على القرآن ولو تعرضوا له لعجزوا عنه، وأن البعض الآخر زعموا أن العرب صرفوا عن التعرض للقرآن مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه، بمعنى أنهم لم يأتوا بمثله سابقا، غير أنه لا يخرج عن حدود قدرتهم لولا أنه حيل بينهم وبين ممارسة ذلك الاقتدار. يُنظر: الجامع لأحكام القرآن: ١/ ٧٦
(٢) - قال الإمام الذهبي: كان شافعيّاً، عالمًا، أَشعريّاً، ذا نسُكٍ ودين. سير أعلام النبلاء - (٣٥/ ص ٤٠٤).
(٣) - الرسالة الشافية: (ص: ١٣٥).

<<  <   >  >>