السبب الرئيس في هذا النشاط هو التحدي الحضاري الذي بدأت الأمة الإسلامية تمارسه ردا على الموجات المغولية والصليبية، فبدأت الأمة تلقي بكل ثقلها لتثبت ذلك، وأنها لم تمت. ولعل هذا من الأسباب الكامنة، وراء إنشاء الكثرة الكاثرة من المدارس العلمية في كل مكان، حتى أنه لقد أصبح شغل أهل العصر الشاغل كيف يبنون المدارس، وماذا يقفون عليها من الأوقاف.
ويرجع الكثير من إنشاء هذه المدارس إلى عهد نور الدين زنكي، وصلاح الدين، اللذين وجدا في المدرسة حصنا يحفظ على الأمة شخصيتها في وجه كل التحديات الصليبية من جهة، والفاطمية والباطنية من جهة أخرى.
وقد كانت المدارس العلمية التي أنشئت في هذا العصر على درجة عالية من التنظيم والإدارة، ذات أهداف بينة ومناهج محددة، وكان لكل مدرسة شيخ، وفيها العدد الجم الغفير من المدرسين والمعيدين والإداريين، والخدم، وربما كان بعض هذه المدارس يفوق في إمكانياته جامعات هذا العصر وكلياته.
فهذا ابن كثير يذكر في تاريخه في حوادث سنة ٧٢٤هـ نبذة عن المدرسة الناصرية، بالقاهرة، فيقول: كان عدد المدرسين ثلاثين في كل مذهب، فجعلهم السلطان أربعة وخمسين.
ولا يحتاج هذا الخبر إلى تعليق لبيان إمكانية هذه المدرسة.
أما المدرسة السكرية بدمشق، والتي كان شيخنا ابن رجب يسكن فيها فقد عين لهذه المدرسة ثلاثون محدثا لكل منهم جراية شهرية، وقرر فيها ثلاثون نفرا يقرأون القرآن، لكل عشرة شيخ، ولكل واحد من القراء نظير ما للمحدثين، ورتب لها إمام، وقارئ حديث، ونواب. وقد تعاقب على مشيخة هذه المدرسة عبد الحليم بن تيمية، ثم أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الإمام المشهور، ثم الذهبي.