للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بديهة، وإن شئت فقل هو فن القلة من الناس، وحتى هؤلاء القلة فإنهم متفاوتون في القدرة عليه.

يقول ابن كثير في اختصار علوم الحديث: وإنما يهتدي إلى تحقيق هذا الفن الجهابذة، النقاد، يميزون بين صحيح الحديث وسقيمه، ومعوجه ومستقيمه، فمنهم من يظن، ومنهم من يقف، بحسب مراتب علومهم وحذقهم واطلاعهم على طرق الحديث، وذوقهم حلاوة عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم التي لا يشبهها غيرها من ألفاظ الناس، فمن الأحاديث المروية ما عليه أنوار النبوة. ومنها ما وقع فيه تغيير لفظ أو زيادة باطلة يدركها البصير من أهل هذه الصناعة".

ويقول ابن الصلاح في هذا: "ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي أو بمخالفته غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك، تنبه العارف بهذا الشأن".

أما الخطيب البغدادي فإنه يقول: "السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانتهم من الحفظ ومنزلتهم من الإتقان".

وإن نظرة سريعة يلقيها الباحث في كتب العلل تظهر له أي علم يحتاجه صاحب هذا الفن، وأية معرفة يفتقر إليها، حتى يصبح من أهل هذه الصنعة. إنه يحتاج ملكة علمية متعددة الجوانب، كثيرة العناصر، تمتاز بالشمول والتكامل. لأننا بعد التحقق نستطيع أن نقول: إن كل جزئية من جزيئات علوم الحديث داخلة في علم العلل، إما دخولا مباشرا، أو غير مباشر كخادم لأصول هذا العلم وضروراته.

[المطلب الثاني وسائل الكشف عن العلة]

دفعنا فيما سبق توهم إدراك العلة بالخواطر والتأملات الباطنية، وذكرنا كلام ابن رجب - رحمه الله - في هذا، وأثبتنا أن كشف العلة لا يكون إلا بعلم ومعرفة وفهم، والدليل على كل علة لا بد من قيامه، وظهور لأهل هذا الفن. وأما موضوعنا هذا فمعقود للكلام عن جوانب من معرفة الناقد وعلمه حتى نتصور كيف تجري عملية الكشف عن العلة، وما هي طبيعة هذا الذهن الذي يتناول النصوص الحديثية بالتمحيص والنقد؟ إيضاحا لهذا نقول:

إن كتب العل تحمل بين طياتها صورة كاملة شاملة لما ينبغي أن يكون عليه رجل هذا الفن، وأنه إن كان حصر جوانب هذه المعرفة لا يمكن في مبحث صغير فإن ذكر أهم هذه الجوانب يسير ومعقول، وفيما يلي بعض هذه الجوانب:

١ - معرفة المدارس الحديثية، ونشأتها، ورجالها، ومذاهبها العقدية والفقهية وأثرها وتأثيرها في غيرها، وما تميزت به عن غيرها، فقد نشأت للحديث مدارس في المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام ومصر واليمن.

وبهذه المعرفة يعالج الباحث أسانيد كثيرة فيكشف عن علتها، فإذا كان الحديث كوفيا، احتمل التدليس، أو الرفض. إن كان بصريا احتمل النصب وتأثير الإرجاء والاعتزال في إسناده. فإذا روى المدنيون عن الكوفيين فإنها تختلف الاحتمالات عما إذا روى المدنيون عن البصريين. ولذلك نجد الحاكم يقول بعد ذكره علة حديث: والمدنيون إذا رووا عن الكوفيين زلقوا. أما حديث الشام عن المدارس الأخرى فأكثره ضعيف.

وقد تكلم ابن رجب عن هذا عند كلامه على النوع الثاني من أنواع العلل، وهو من ضعف حديثه في بعض الأماكن دون بعض.

<<  <  ج: ص:  >  >>