للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صحيحة ليست بأضغاث أحلام ولا من تشبيهات الشيطان، ويدل على أن الرؤية في قوله: «فقد رآني» مؤوله برؤيا المنام لأنها رؤية حقيقية أن الرائي قد يراه على خلاف صفته المعروفة، كان يراه أبيض اللحية، وأنه قد يراه شخصان في زمن واحد أحدهما في المشرق والآخر في المغرب فيراه كل منهما في مكانه.

قال حجة الإسلام الغزالي: ليس معنى «فقد رآني» : أنه رأى جبهتى وبدني بل رأى مثالاً صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في النفس إليه، بل البدن في اليقظة أيضاً ليس إلا آلة النفس، فالحق أن ما يرى حقيقة روحه المقدسة التي هي محل النبوة فما رآة من الشكل ليس هو روح النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا شخصه بل مثال له.

قال: ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام، فإن ذاته منزهه عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس نور أو غيره، ويكون ذلك المثال حقاً في كونه واسطة في التعريف، فيقول الرائي: رأيت الله في المنام لا بمعنى أني رأيت ذات الله تعالى كما يقول في حق غيره.

وقال ابن العربي القاضي (١) : إن رآه على صفته فهي هو حقيقة، وإن رآه على غير صفته فهي رؤيا تأويل لا حقيقة، والراجح كما قال الكرماني وغيره وصوبه النووي: حمل الحديث على ظاهره بأن يقال: معنى «فقد رآني» رؤيا حقيقية لا منامية وما مثالية، ولو رآه على غير صفته المعروفة أو في مكانين وليس لمانع أن يمنع ذلك، لأن العقل لا يحيله حتى يضطر إلى التأويل.

فإن قيل: كيف تكون الرؤية حقيقية إذا رآه على غير صفته أو في مكانين؟

فالجواب: إن التغير المذكور ليس في ذاته بل في صفاته، وتكون ذاته مرئية وصفاته مستحيلة، والرؤية أمر يخلقه الله في الحي ولا يشترط أن يكون بمواجهته ولا تحديق بصر، ولا كون المرئي ظاهراً بل الشرط كون موجودا فقط حتى تجوز رؤية أعمى الصين من في قبة الأندلس، ولم يقم دليل على فناء جسمه - صلى الله عليه وسلم - بل الحديث يقتضي بقاءه.

سؤال: فإن قيل: الحديث المسموع منه في المنام هل هو حجة يستدل به أم لا وإذا أمر أحد بشيء هل يجب عليه امتثال أم لا.

فالجواب: أن الحديث المسموع منه - صلى الله عليه وسلم - في المنام ليس بحجة، إذا يشترط في الاستدلال به أن يكون الراوي ضابطاً عند السماع، والنوم ليس حاله الضبط، وإذا أمر أحد بشيء لا يجب عليه امتثاله على الأصح لكن يستحب.


(١) ابن العربي القاضي هو أبو بكر، أبو بكر بن بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، من حفاظ الحديث، ومن علماء المالكية، ولد بإشبيلية، ورحل إلى المشرق، وبرع -رحمه الله- في الفقه، والحديث، والأصول، وعلوم القرآن، وبلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين من تصانيفه: شرح على الترمذي، وأحكام القرآن توفي سنة: ٥٤٣هـ.
انظر: شذرات الذهب (٤/١٤١) ، وتذكرة الحفاظ (٤/٨٦) .

<<  <  ج: ص:  >  >>