"الأولى": ما نقلته عن العلماء في بيان من هو المحدث والحافظ والحجة ... إنما هو باعتبار أزمانهم وعصورهم الأولى. أما في عصورنا هذه فينبغي التسامح في ذلك. وإلا فإننا لا نجد من ينطبق عليه وصف المحدث فضلا عن غيره من الألقاب ومن قبل لاحظ بعض الأئمة عزة من يطلق على هذه الألقاب فما بالك بعصرنا هذا١ وغاية المحدث في عصرنا "إن وجد" أن يحيط بعلم الحديث رواية, والقدرة على البحث والتفتيش عن الرجال وجرحهم وتعديلهم من بطون الكتب, وقراءة الكتب الستة والموطأ والمسند والمستدرك وسنن الدارقطني والبيهقي ونحوها, وكثرة المداومة على قراءة هذه الكتب, والبحث والتفتيش حتى تتكون عنده ملكة بالعلم بما فيها, بحيث يتمكن من استخراج أي حديث منها إذا أراد, والعلم بمعظم الأحاديث فقها وغريبا.
ولا أدري ما إذا كان يوجد في عصرنا هذا من يستأهل لقب المحدث مع التسامح أم لا؟ لقد أصبح لقب المحدث يمنح لمن دون ذلك بكثير.
"الثانية": قد يقول قائل: إن ما ذكرته عن الألوف المؤلفة التي كان يحفظها الأئمة الكبار وما نقل عنهم في هذا لا يصدقه المدون في كتب الحديث على كثرتها. فإن ما يوجد فيها من الأحاديث المرفوعة لا يبلغ عشر هذا المقدار.
والجواب: أنه ليس المراد بهذه الألوف أنها كلها أحاديث متغايرة, كما هو الظاهر, وإنما يدخل في هذه الطرق المتعددة للحديث الواحد فقد يروى الحديث الواحد بعشرة أسانيد, وما هي في الحقيقة والواقع إلا طرق لحديث واحد, فيتخير أي إمام منها أصحها وأوثقها في نظره, ويدع ما عدا ذلك, وقد يكون فيما ذكره ما ليس صحيحا عند غيره.
١ المرجع السابق ص٧. ومن ٧-٩ الطبعة بتحقيق وتعليق الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف.