للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الرشيدة يتحرون الصدق والحق. روى ابن عساكر أن تميما الداري لما استأذن عمر رضي الله عنه في أن يقص في المسجد قال له: ما تقول؟ قال: "أقرأ عليهم القرآن وآمرهم بالخير، وأنهاهم عن الشر", ولكن لم يلبث الأمر على ذلك طويلا، فقد وجدت فئة من القصاص كان همها استمالة العامة بالمناكير والغرائب والأباطيل، وعن طريق هؤلاء أيضا دخلت على الإسلام إسرائيليات كثيرة، ومن صفاقات القصاص، وتبجحاتهم ما روي١ أنه صلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين بمسجد "الرصافة" فقام بين أيديهم قاص فقال: "حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله خلق الله من كل كلمة طيرا منقاره من ذهب وريشه من مرجان ... وأخذ في قصة طويلة جدا من هذا القبيل", فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ويحيى ينظر إليه فقال: أنت حدثته بهذا؟ فقال: والله ما سمعت بهذا إلا الساعة, فلما انتهى أشار له يحيى فجاء متوهما نوالا, فقال له يحيى: من حدثك بهذا؟ قال: ابن حنبل ويحيى بن معين فقال: أنا يحيى وهذا أحمد ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن كان ولا بد فعلى غيرنا، فقال الرجل القصاص: لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق ما تحققته إلا الساعة فقال يحيى: وكيف؟ قال: كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل


١ لا أكتمك أيها القارئ إني في شك من أمر هذه القصة فما مثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ممن يرضون بأضعف الإيمان ولا يقال: لعلهما خافا من الغوغاء والعامة الذين يحبون أمثال هذا القاص ويدافعون عنه، فقد كانا ولا سيما الإمام أحمد بالمكانة التي لا تجهل، ومثله كان مسموع الكلمة بين الناس، وموقفه من مسألة القول بخلق القرآن معروف يشهد له بالشجاعة الأدبية النادرة، فكان عليه أن يحول بينه وبين هذا المنكر، أو ينبه الناس إلى بطلان هذا على الأقل, ولكن الرواية لم تذكر لنا شيئا من ذلك ولعلك معي في هذا الشك, وإن كان التشكك لا يعود على أصل الفكرة بالنقض. وقد كتبت هذا من منذ ربع قرن أو يزيد، ثم لما قرأت كتاب "منهج النقد في علوم الحديث", وجدت مؤلفه الفاضل نقل عن الإمام الذهبي أن القصة باطلة، فحمدت الله على ذلك، وظهر لي أن شكي كان في محله. "انظر منهج النقد ص٢٨٩".

<<  <   >  >>