المبارك:"لو هم رجل في السحر أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: كذاب", ففي هذه النقول وغيرها ما يدل على يقظة أهل الحديث ورجاله للموضوعات، والعمل على إبطالها، وعلى تعقبهم الوضاعين، ورد كيدهم في نحرهم، وقد كان من فضل الله على الأمة الإسلامية أن رزقها من الحفاظ البارعين والنقاد البصيرين ما لا يحصون كثرة، وقد اتخذ جهاد المحدثين مظاهر شتى وأنواعا متعددة.
١- المبادرة بجمع الأحاديث وتدوينها تدوينا عاما في وقت مبكر, وكان ذلك على رأس المائة الأولى في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه, فقد كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم المتوفى سنة ١٢٠هـ, وإلى محمد بن شهاب الزهري المتوفى سنة ١٢٤هـ وغيرهما من علماء الأمصار: أن انظروا ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاجمعوه فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء، فسارع العلماء إلى الاستجابة بدافع من دينهم، ووازع من أنفسهم، وأقبلوا على الجمع إقبالا منقطع النظير، بحيث لم يكد ينتهي القرن الثالث حتى كانت الأحاديث والسنن مجموعة في كتب الحديث المعتمدة مثل موطأ الإمام مالك؛ ومسند الإمام أحمد وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، والترمذي والنسائي، وابن ماجه، وصحيح محمد بن إسحاق بن خزيمة، وتهذيب الآثار لابن جرير الطبري، وغيرهما من الكتب، وقد أطنبت في هذا في كتابي "أعلام المحدثين"١ فليرجع إليه من يشاء الاستزادة, وبهذا حالوا بين الوضاعين، وبين الإفساد في الأحاديث، وصارت كتب الحديث، ودواوينه المعتمدة موردا للمجتهدين والمستدلين، ومرجعا لمعرفة الصحيح من الحسن، من الضعيف.