والذي يظهر لي أن أبا زرعة إنما أراد التقريب لا التحديد، وأنه قال ذلك اجتهادا فقد روى ابن الصلاح عن أبي زرعة أنه سئل عن عدة من روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال:"ومن يضبط هذا؟ شهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع أربعون ألفا، وشهد معه تبوك سبعون ألفا".
وروى أبو بكر الساجي في مناقب الشافعي بسند جيد عنه أنه قال:"قبض رسول الله والمسلمون ستون ألفا: ثلاثون ألفا بالمدينة، وثلاثون ألفا في قبائل العرب وغير ذلك", والحق أن ضبط العدد على التحديد الدقيق متعذر وأن كلا قال ما قال على اجتهاده، وما وصل إليه علمه، ولعل ما ذكره أبو زرعة هو الأقرب إلى الحق والصواب.
ولا يشكلن عليك أن جميع ما ألف في الصحابة من كتب لا يزيد عددهم فيها عن عشر هذا المقدار إلا قليلا, وأوفاها وهو الإصابة مجموع التراجم التي فيها "١٢٢٨٩" بما في ذلك المكرر للاختلاف في اسم الصحابي أو شهرته بلقب، أو كنية أو نحو ذلك، وبما فيه أيضا ممن ذكره بعض المؤلفين في الصحابة وليس منهم؛ لأنه ليس بلازم أن كل صحابي يصل خبره إلى الرواة المؤلفين مهما بالغوا في التتبع والاستقصاء، فكثير منهم أعراب حضروا حجة الوداع، ثم رجعوا إلى البادية, فلم يعلم عنهم خبر، وكثير منهم مات في حروب الردة، وفي الفتوحات في عهد أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وفي الطاعون العام كعمواس وغير ذلك, وكل هذا من أسباب خفاء الأسماء وضياع الأخبار.
ومهما يكن من شيء فتحديد أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأربعة آلاف مقالة زنديق ولا ريب يقصد بها التشكيك في الأصل الثاني من أصول التشريع في الإسلام وهي السنة، ورحم الله الإمام الجليل أبا زرعة لتنبيهه إلى ذلك، وشكر الله تبارك وتعالى له على هذه الالتفاتة الذكية الواعية، وليس أدل على هذا من أن الدواوين الواسعة المؤلفة في