للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الموضوعات كفائدة الملح للإنسان، وليس ثمة واحد يقف ليثني على " الحب "؛ وفي مجلس يحيى فاتحة مشابهة، فقد وجه رب المجلس حديثه إلى المثقفين والموجودين في حضرته، بالتذمر من أنهم أسرفوا في الحديث عن كل نقطة، مهما تدق، في علم الكلام، فتحدثوا عن الكمون والظهور والقدم والحدوث والنفي والإثبات والحركة والسكون والجزء والطفرة والأجسام والإعراض، وإنهم قد أشبعوا القول في هذه القضايا وسواها، ومن حق العشق عليهم أن يقولوا فيه شيئاً - دون منازعة (١) - ودون استعداد سابق، بل بما سنح لهم في الوقت، على نحو ما جرى في " حوار المأدبة ".

وليس يهمني هنا: أحدث ذلك المجلس حقاً أم لم يحدث، وهل ضم تلك الشخوص أو لم يضم، وإنما الذي يهمني هو هذا " الأنموذج " الذي يقرب إلى الظن أن " حوار المأدبة " على نحو ما، أو شيئاً شبيهاً به، كان معروفاً لدى المثقفين المسلمين في أواخر القرن الثاني أو أوائل الثالث، وإلا فلماذا " العشق " من دون سائر الموضوعات ينتدب إلى الكلام فيه على نحو واقعي أو متخيل - عدد من مفكري ذلك العصر لقد ملأ الحديث عن الحب الشعر العربي والحكايات والأسعار حتى حينئذ، وكان لابد - في ظل الثقافة اليونانية - أن يتصدى له " المتفلسفون " ليحددوا طبيعته وماهيته، على نحو يذكر المأدبة.

بل إننا لا نستطيع أن ننفي الصلات الموضوعية بين مجلس يحيى والمأدبة، معتمدين الحافز والإطار موضوعين للتشابه بينهما وحسب، فإن المدقق في أحاديث المتكلمين في مجلس يحيى يلمح بعض المشابه في التعبير عن " الحب " أو " العشق ". هذا هو " فايدرس " المتحدث الأول في " المأدبة " يتناول الحب من حيث هو قوة محولة، تجعل الحب يتوجه نحو الفضيلة وينفر من الرذيلة ومن كل ما يجر العار على نفسه في سبيل رضى


(١) " دون منازعة "، وهي التي حددت عدم ظهور الحوار، على نحو متعمد.

<<  <  ج: ص:  >  >>