للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

- ٦ -

[رسالة البيان عن حقيقة الإيمان]

كان ابن الحوات أحد المعجبين بابن حزم حتى إنه ليقول في رسالته إليه: " إنه لولا خوف المشغبين وما ذهينا به من ترؤس الجاهلين لكتبت أقوالك ومذاهبك وبثثتها في العالم وناديت عليها كما ينادى على السلع "، وكان قريباً في الطريقة من ابن حزم: قوة نظر وذكاء وسرعة جواب واستعمالاً للبرهان، أي أن فيه ما يهيئه لان يكون " متكلماً "، ولكن بين الصديقين فوارق أساسية في الطبيعة وعناصر الشخصية. فابن الحوات يخاف المشغبين والحكام الجاهلين، ويحاول أن يقنع صديقه بألا يعرض نفسه للمحنة، ويلمح إليه أنه - أي ابن الحوات - يستعمل ضروباً من الساسة في معاملة الناس، وكأنه يحضه على اتباع طريقته، ولكن ابن حزم يعتقد أن الخوف من المشغبين والمترئسين الجاهلين لا يكف أذاهم، ولذلك فهو يؤثر ان يصدع بالحق دون خشية، وهو لا يخاف الناس " فقد سبق القضاء بما هو كائن فلا ترده حيلة محتال "، وعدم التعرض للمحنة في سبيل الحق ينطبق عليه مثل يردده العوام: " فلان يحب الشهادة والرجوع إلى البيت " فقد جرب هو مواجهة الأخطار حتى لقد انتصر له ناس يخالفونه في مقالته، اليس هذا حماية من الله عز وجل الذي وعد بنصر من ينصره لقد قام يذب عن ابن حزم حين كثرت عليه الهجمات القاضي عبد الرحمن بن بشر وابن عبد الرءوف صاحب الاحكام وحكم بن منذر بن سعيد ويونس بن عبد الله بن مغيث وأحمد بن عباس واحمد بن رشيق، فلماذا يخاف نعم إن السياسة قد تكون ناجحة، ولكن يبدو أنها لم تكن في طبعه، ولهذا فهو يستحسنها حين تكون ضرباً من الموعظة الحسنة، ولكنه لا يستطيع أن يتحول عن طريقته في النقد المواجه إلى المداراة. ويتخلل هذه التلميحات التوجيهية من صديقه ابن الحوات قضيتان أشبه بالنادرتين: في إحداهما يعتب ابن الحوات على ابن حزم انه نمي إليه بأنه (أي ابن حزم) قد نسب إلى صديقه القول بأن لا إدام إلا الخل، وفي الثانية ابن حزم بأنه سريع إلى إفشاء ما يقوله مؤيدوه بل قد يقولهم ما لم يقولوه؛ ويتنصل ابن حزم من هاتين التهمتين ضاحكاً من الثانية متبرئاً من الأولى لأنه لا يستجيز الكذب على أحد ولا يستحل الخروج على المنطق في مثل ذلك القول، لأنه يعلم تمام العلم أن الادام أنواع كثيرة.

تلك مقدمة أشبه بالحديث الذاتي، ولكن رسالة البيان عن حقيقة الإيمان إنما

<<  <  ج: ص:  >  >>